الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك، وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في مواضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر، فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال:"نصر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع" جاء بهذا اللفظ، أو معناه مطولًا ومختصرًا، من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجبير بن مطعم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم. (1)
الوجه الحادي عشر: الأحاديث ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة:
اعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا .. وأشباه هذا، وهذا كثير أيضًا، وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام في ما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. (2)
الوجه الثاني عشر: التابعون كانوا يحفظون الحديث كما يحفظون القرآن
.
وأما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يحفظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل، حتى يحفظه -هذا مع قوة حفظه-.
(1) الأنوار الكاشفة (1/ 82).
(2)
الأنوار الكاشفة (1/ 84).
ذكروا أن صحيفة جابر -على كبرها- قرئت عليه مرة واحدة، وكان أعمى؛ فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة، فلم يخطئ حرفًا ثم قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقى كتبه، ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب، وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ، وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة، وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه: كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة.
أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها، ويتعاهدها، ويتحفظ حديثه منها، ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه، ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطئ، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه، ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أو يؤخرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.
فأما من بعدهم؛ فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظًا، ومع ذلك لم يسمع منه أحد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راو فينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوتة فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلاف لا يحتمل ضعفوه. وربما سمعوا الحديث من الرجل ثم يدعونه مدة طويلة ثم يسألونه عنه. ثم يعتبر حرف مرواياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها. وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مر، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا. ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، إن هناك من المحدثين من يسهل ويخفف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلًا مطلقًا فمعنى ذلك أنه
يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى المعنى لم يغير المعنى، وإذا رأيتهم قد صححوا حديثًا فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه، فإن بان لهم خلاف ذلك نبهوا عليه (1).
قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة (2).
وكان ابن سيرين من المتشددين في أن لا يروى إلا باللفظ ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطئ أحد منهم المعنى -ولهذا لما ذكر له أن الحسن والشعبي والنخعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله (إنهم لو حدثوا كما سمعوا كان أفضل) ومن تدبر ما تقدم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحري ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأن الحديث الواحد قد يرويه صحابيان أو أكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهلم جرا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودونوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كل راو في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يروي الحديث مرة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى، جرحوه، ثم اعتبروا رواية كل راوٍ برواية الثقات، فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى؛ جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح، فلا يصححون ما عرفوا له علة، نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه، من تدبر هذا ولم يعمه الهوى اطمأن قلبه بوفاء الله تعالى بما تكفل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد، ويؤكد ذلك أن أبا رية حاول أن يقدم شواهد على اختلاف ضار وقع بسبب الرواية. (3)
(1) الأنوار الكاشفة 1/ 85.
(2)
أخرجه الترمذي في العلل الصغير (ص: 746).
(3)
الأنوار الكاشفة (1/ 87)، وانظر الكفاية للخطيب (206).