الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلق هي مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم فهم الواسطة بين الله وبين خلقه الذين أرسلوا إليهم، فبطريقهم يهتدي البشر ويرشدون إلى دين الله إذ هم المبلغون عن الله أمره ونهيه وشرعه.
ولذلك فقد أوجب الله العصمة لأنبيائه ورسله في هذا الجانب حتى تصل الرسالة إلى العباد كاملة تامة غير منقوصة ولا محرفة، وبذلك تقوم الحجة على العباد.
ولقد دلت نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك.
أولًا: من القرآن الكريم:
جاءت آيات في القرآن الكريم تثبت عصمته صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما يبلغ عن الله تعالى، وهذه الآيات تتضمن أيضًا أدلة عقلية على صدقه صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات ما يلى:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وقوله سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} والذي جاء بالصدق كما يدل عليه سياق هذه الآية هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شهد لما جاء به من عنده سبحانه (قرآنًا وسنة) سماه صدقًا، ويلزم من صدق ما أتى به، صدقه هو في نفسه، إذ لا يأتي بالصدق إلا كامل الصدق، وذلك مما لا جدال فيه حيث كان صدقه معلومًا منذ حداثة سنه، وشهد له بذلك أعداؤه قبل أصدقائه، فإن الأعداء من الكفرة والمشركين لم يكونوا يشكون يومًا في صدقه، كما قال عز وجل:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وكما كانوا يشهدون له بذلك في مواقف مختلفة.
وإذا كانت الآيات السابقة شهادات حسية على صدقه في كل ما يبلغ عن ربه، فهناك شهادات معنوية على صدقه صلى الله عليه وسلم تتمثل في تأييد الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم بالمعجزات المنزلة منزلة قوله عز وجل:"صدق عبدي فيما يبلغ عني" ومن هذه المعجزات: القرآن الكريم، وانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتكثير الطعام، والإخبار بمغيبات كثيرة، وتأييده له
بالنصر على الأعداء، على قلة جنده وضعف عدته في معركة إثر معركة، ولقاء بعد لقاء، وكل ذلك منزل منزلة قول مرسله تبارك وتعالى:"صدق عبدي فيما يبلغ عني".
إذ أن تأييده بذلك كله، وهو يدعى أنه مرسل من عند ربه، وهو على مسمع من ربه سبحانه ومرأى، وهو جل شأنه لا يزال يؤيده بكل ذلك: دليل على كمال صدقه، وعصمته في كل ما يبلغه من قرآن وسنة، إذ لو كان بخلاف ذلك لما أيده، ولفضح أمره للملأ، كما هي سنته سبحانه فيمن حاولوا الكذب عليه.
الدليل الثاني: قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} . فالآيات نصت على أن الله سبحانه وتعالى لا يؤيد من يكذب عليه بل لابد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس كما يزعم الكافرون فيما حكاه الله عنهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} - وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك - لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره في هذه الآيات، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقع له شيء من ذلك فلم يهلكه الله ولم يعذبه، فهو على هذا لم يتقول على الله ما لم يقله ولم يفتر شيئا من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته في كل ما بلغه عن ربه عز وجل.
فهذه الآيات دليل صدقه وعصمته في تبليغه الوحي (قرآنًا وسنة) بدليل التمانع، فقد امتنع أخذه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بتلك الصفة، لامتناع تقوله عليه، وامتناع التقول عليه يعنى الصدق والعصمة فيما يقول ويبلغ عن ربه.
أي: لو لم يكن القرآن والسنة منزلين من عندنا، ومحمد ادعى أنهما منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يقل على الله ما لم يقله عز وجل، لأن "لو" حرف امتناع لامتناع، فامتنع ذلك من الله عز وجل، لامتناع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الأشياء.
قال ابن كثير: بعد أن فسر هذه الآيات: والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد، لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات، والدلالات القاطعات. (1)
وبالجملة: فالآيات من جملة مدحه، ودليل عصمته في البلاغ لوحي الله تعالى، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه قال تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} (الحاقة: 38 - 43).
الدليل الثالث: قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم: 3 - 4)، فكلمة "ينطق" في لسان العرب، تشمل كل ما يخرج من الشفتين قول أو لفظ أي: ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء، والفعل إذا وقع في سياق النفي دل على العموم، وهذا واضح في إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم محصور في كونه وحيًا لا يتكلم إلا به وليس بغيره وفى هذا دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وسلم، في كل أمر بلغه عن ربه من كتاب وسنة، فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه، ولا يقول إلا ما أمر به فبلغه إلى الناس كاملًا من غير زيادة ولا نقصان، وهذه شهادة وتزكية من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما بلغه للناس من شرعه تعالى.
الدليل الرابع: قال عز وجل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (الإسراء: 73 - 75).
وهذه الآيات دالة على عصمة الله وتثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أوحى إليه، ومعناها مقارب لمعنى الآيات التي ذكرناها قبلها "فقد أخبر تعالى عن تأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيته
(1) تفسير القرآن العظيم 14/ 123.
وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه في مشارق الأرض ومغاربها.
فهذه الآيات من جملة الآيات المادحة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، والشهادة بعصمته في كل ما يبلغ عن ربه عز وجل وحكم "كاد" في الآيات حكم سائر الأفعال، فمعناها: منفي إذا صحبها حرف نفي، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل: كاد زيد يبكي، فمعناه: قارب البكاء، فمقاربة البكاء ثابتة، وإذا قيل: لم يكد يبكي، فمعناه: لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة"، والشرط في الآيات على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، والمعنى: لولا ثبوت تثبيتنا إياك، لقد قاربت أن تميل إليهم شيئًا يسيرًا من أدنى الميل، لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك.
فتأمل كيف بدأ بثباته وسلامته بالعصمة، قبل ذكر ما عتبه عليه، وخيف أن يركن إليهم، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع. وتأمل كيف جاء في أثناء عتبه - إن كان ثم عتب - براءته، وفى طي تخويفه تأمينه وكرامته.
وبالجملة: فسياق الآيات بيِّن واضح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركن إليهم أبدًا، وإلا لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره في هذه الآيات، وحيث إن رسول الله لم يقع له شيء من ذلك، فلم يعذبه ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، ولم يتخلى عنه طرفة عين، كما تشهد بذلك سيرته العطرة، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقوَّل على ربه ما لم يقله، ولم يفتر شيئًا من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته في كل ما بلغه عن ربه من وحى الله تعالى قرآنًا وسنة.
قال القاضي عياض: في الآية دليل على أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته مما كاده به الكفار، وراموه من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم الآية. (1)
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 145 بتصرف يسير.
الدليل الخامس: ليس أدل على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ وحي ربه، من تبليغه حتى ما يمس جنابه العظيم، من العتاب الذي كان يوجهه الله تعالى إليه، وذلك كما في قوله جل شأنه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله سبحانه: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} إلى غير ذلك من آيات.
فآيات العتاب في القرآن الكريم ما كان ليتفوه النبي صلى الله عليه وسلم بها لولا كمال عصمته في البلاع وكمال أمانته فيه، لأن كتمان ذلك في نظر العقول البشرية ستر على النفس الشريفة، واستيفاء لحرمة آرائه، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه.
فعن أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اتَّقِ الله، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: "لَوْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذه"(1).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ الله فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِرْيَةَ وَالله يَقولُ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2).
ولقد صدق أنس، وصدقت عائشة رضي الله عنهما، وبرا، فما أدق استنباطهما في الدلالة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاغه وحي الله إلى الناس! .
وبعد: فهذه شهادات من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بعصمته في أداء واجب البلاع على أكمل وجه {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ولم يكتف عز وجل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادات، بل لقد أضاف إليها شهادة أخرى بأسلوب آخر، حيث قال جل شأنه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
(1) البخاري (7420)، مسلم (177).
(2)
البخاري (4612)، مسلم (177).