الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عز وجل هين
…
وهذا يوضح عصمته، إنه الذي نزعت علقة من صدره، هي حظ الشيطان منه، وأفرغ في صدره طست الإيمان والحكمة، فكيف يكون عقل هذا شأنه؟ إنه يكون عقله أسمى من كل عقل، وأزكى من كل فهم، ولم لا؟ وقد نزع منه حظ الشيطان، وملئ قلبه بالحكمة والإيمان والحكمة جامعة لعموم العلوم والمعارف، والإيمان كلمة جامعة لكل ما يرضى الله.
ثالثا من الإجماع:
قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى ولا على خاطره بالوساوس. (1)
ثالثا: عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه من القتل
. (2)
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فاقترن تعهد الله بعصمة رسوله من قتل الناس وإيذائهم له مع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه، وفى هذا الاقتران دليل جلي على أن عصمة الله تعالى وحفظه ونصره وتأييده على أعدائه قد صاحبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تم له إبلاغ هذا الدين ونشره بين الناس.
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
قيل: بكاف محمدًا صلى الله عليه وسلم أعداءه المشركين وقيل: غير هذا وقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} وقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بيني وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 134. وانظر تفسير حقي 13/ 15.
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 366، دلائل النبوة لأبي نعيم صـ 149، دلائل النبوة للبيهقي، رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 175: 132، موسوعة نضرة النعيم المقدمة صـ 527.
نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: - "لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا". قَالَ: فَأَنْزَلَ الله عز وجل لا نَدْرِى في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شيء بَلَغَهُ {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)} - يَعْنِى أَبَا جَهْلٍ - {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ} . (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "لَوْ فَعَلَهُ لأَخَذَتْهُ المُلائِكَةُ"(2).
وتمتد عناية الله عز وجل وعصمته لنبيه صلى الله عليه وسلم من محاولة سراقة بن مالك النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالقتل أو الأسر للحصول على الدية التي رصدها كفار قريش (مائة ناقة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم) قتيلًا أو أسيرًا، وكما جاء على لسان سراقة بعد أن تتبع أثرهم قال: حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ (أى: اقترب من رَكْبِه صلى الله عليه وسلم)، فَعَثَرَتْ بِي فرسي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يدي إِلَى كنانتي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَ الأَزلامَ (3)، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لا فَخَرَجَ الذي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فرسي، وَعَصَيْتُ الأَزْلامَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهْوَ لا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فرسي في الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتها فَنَهَضَتْ، فَلَمْ يمَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمّ اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِع في السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلامِ، فَخَرَجَ الذي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فرسي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ في نفسي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ
(1) مسلم (2797).
(2)
البخاري (4958).
(3)
الزُّلَم والزَّلَم واحدُ الأزْلام: وهي القِدَاح التي كانت في الجاهلية عليها مكتُوبٌ الأمرُ والنهيُ افْعَل ولا تفْعَل كان الرجُل منهم يضعُها في وعاء له فإذا أرادَ سفرًا أو زواجًا أو أمزا مُهِمًّا أدخلَ يده فأخرج منها زَلما فإن خرجَ الأمرُ مضى لشأنِه وإن خرج النَّهيُ كفَّ عنه ولم يفعلْه. النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 774.
الحْبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتهمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الزَّادَ وَالمتاعَ، فَلَمْ يرزآني (1)، وَلَمْ يسألاني إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا. فَسَألتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِى كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. (2)
فتأمل كيف عصم رب العزة رسوله صلى الله عليه وسلم من محاولة سراقة قتله أو أسره، ليفوز بالدية التي رصدت من كفار قريش، إذ ما اقترب من ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عثرت به فرسه، مرة تلو الأخرى بعد إصراره على تتبع ركبه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما سمع دعاءه صلى الله عليه وسلم بأن يصرعه، أو يكفيه إياه بما شاء، إلا وتتعثر به فرسه للمرة الثالثة، حتى أن يدا فرسه في هذه المرة غاصت في الأرض حتى بلغتا الركبتين، وبعد محاولات منه لاستنهاضها، إذ به يرى على يديها أثر دخان من غير نار ساطع في السماء، وهنا أيقن سراقة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظ، ومعصوم منه، كما أيقن في نفس الوقت، أنه نبي الله حقًّا، وأن دينه سيظهر، فما كان منه إلا أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمان، فأعطاه إياه، ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أن يقف في مكانه، ولا يترك أحدًا يلحق برَكْبِهِ صلى الله عليه وسلم، ففعل سراقة، وهنا تتجلى إرادة المولى عز وجل ومشيئته في عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغير حال سراقة "إذ كان في أول النهار جاهدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له" أي حارسًا له بسلاحه، بل وبلسانه أيضًا كما جاء في رواية ابن سعد:"أنه لما رجع، قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم، فلم أر شيئًا، فرجعوا" وقال أيضًا رضي الله عنه ردًا على أبى جهل لما بلغه موقفه هذا، ولامه في تركهم أنشده:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا
…
لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدًا
…
نبي وبرهان فمن ذا يقاومه؟ !
عليك بكف الناس عنه فإنني
…
أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
(1) أي لم يأخذا مني شيئًا، يقال رَزَأْته أرْزَؤُه. وأصله النَّقْص النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 526.
(2)
البخاري (3906)، وأخرجه مسلم (2009) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.