الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما جاء عن علي رضي الله عنه (تزاوروا وأكثروا ذكر الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يندرس). (1)
تثبت الصحابة رضي الله عنهم عند سماع الحديث، حتى كان بعضهم يستحلف الراوي، أو يطلب شاهدًا آخر، أو نحو ذلك، وقد مرّ شيء من هذا. (2)
وإنما كانوا يفعلون ذلك توقيًا من الخطأ في الرواية وتثبتًا من المسموع.
وخلاصة ما مرّ أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم سواء رواها الصحابة شفاهًا، أو دوّنوها في صحف- فإنهم كانوا يتثبتون في روايتها غاية التثبت قبل روايتها.
- فلم يرو منهم غير المتقن.
- ولم يرو المتقن منهم غير ما أتقنه.
- وأن السامع لما رواه الأثبات من الصحابة كان يتثبت من المروي، دون تكذيب للراوي، أو اتهام له بالخطأ؛ حرصًا منهم على الإتقان.
الوجه الرابع: كتابة الصحابة للسنة
.
أقول: قد حدثت كتابة للسنة في الجملة كما يأتي، لكن لم تشمل ولم يؤمر بها أمرًا، ومن حكمة ذلك: أن الله تبارك وتعالى كما أراد لهذه الشريعة البقاء؛ أراد سبحانه أن لا يكلف عباده من حفظها إلا بما لا يشق عليهم مشقة شديدة، ثم هو سبحانه يحوطها ويحفظها بقدرته، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل فراغه؛ خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله عليه {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وقوله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} (القيامة 16، 17)، وقوله {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)} (الأعلى 6: 8).
(1) المستدرك (1/ 173 - 324).
(2)
في أول باب السنة.
وكانت العرب أمة أمية يندر وجود من يقرأ أو يكتب منهم، وأدوات الكتابة عزيزة، ولا سيما ما يكتب فيه، وكان الصحابة محتاجين إلى السعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبيع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقًا، فاقتصر منه على كتابة ما ينزل من القرآن شيئًا فشيئًا، ولو مرة واحدة في قطعة من جريد النخل أو نحوه، تبقى عند الذي كتبها، وفي صحيح البخاري وغيره، من حديث زيد بن ثابت -في قصة جمعه القرآن بأمر أبي بكر- قال:(فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة: 128) حتى خاتمة سورة براءة.
وفي فتح الباري: أن العسب: جريد النخل، واللخاف: الحجارة الرقاق، وإنه وقع في رواية: القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، ووقع في روايات أخر: ذكر الرقاع وقطع الأديم والصحف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن بعض أصحابه ما شاء الله من القرآن، ثم يلقن بعضهم بعضًا، فكان القرآن محفوظًا جملة في صدورهم ومحفوظًا بالكتابة في قطع مفرقة عندهم.
والمقصود أنه اقتصر من كتابة القرآن على ذلك القدر؛ إذ كان أكثر منه شاقًا عليهم، وتكفل الله جل جلاله بحفظه في صدورهم، وفي تلك القطع، فلم يتلف منها شيء، حتى جمعت في عهد أبي بكر، ثم لم يتلف منها شيء حتى كتبت عنها المصاحف في عهد عثمان، وقد الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر: 9)، وتكفله سبحانه بحفظ لا يعفي المسلمين أن يفعلوا ما يمكنهم كما فعلوا - بتوفيقه لهم - في عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان.
وأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضا؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه، وهو السنة، وحفظ لسانه، وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة، والهداية باقية،
بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة: 19).
فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين، حتى كتبت ودونت - كما يأتي - وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقًا جدًّا؛ لأنها تشمل جميع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله، وغير ذلك.
والمقصود الشرعي من السنة هو: معانيها، وليست كالقرآن، فالمقصود لفظه ومعناه؛ لأن كلام الله بلفظه ومعناه، ومعجز بلفظه ومعناه، ومتعبد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير، لا جرم خفف الله عنهم واكتفى من تبليغ السنة غالبًا بأن يطلع عليها بعض الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء، فالشأن في هذا الأمر هو العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمر به التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة، ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجودًا بين الأمة، وتكفل الله تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنة مئنة، فتم الحفظ كما أراد الله تعالى، وبهذا التكفل يدفع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن، كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده ونحو ذلك، ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم، وتدبر ما آتاهم - الله تعالى من قوة الحفظ والفهم، والرغبة الأكيدة في الجد، والتشمير لحفظ السنة وحياطتها؛ بان له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله تعالى بحفظ دينه، وشأنهم فيها عظيم جدًّا، أو هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها، وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحاديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت؛ لانسد باب تلك العبادة وقد قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (الذاريات: 56).
وثم مصالح أخرى منها: تنشئة علوم تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدثين إلى معرفة أحوال الرواة،
فاضطروا إلى تتبع ذلك، وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تبعهم غيرهم، ومنها: الإسناد الذي يعرف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث، ثم سرى إلى التفسير والتاريخ والأدب.
هذا والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها، ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما أن يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت، فهاهنا من تدبر كتاب الله، وتتبع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ونظر إلى ما جرى عليه العمل العام في عهد أصحابه، وعلماء أمته، بوجوب العمل بأخبار الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها من صلب الدين، فمن أعرض عن هذا وراح يقول: لماذا لم تكتب الأحاديث؟ بماذا، لماذا؟ ويتبع قضايا جزئية - إما أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة، وإما أن يكون لها محمل لا يخالف المعلوم الواضح - فمن كان ذلك شأنه؛ فلا ريب في زيغه (1).
فلا يتوهم بعض الناس أن الصحابة لم يكن لهم كتاب يتضمن علمًا غير كتاب الله - وهذا خطأ بيّن - بل قد كتب الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثه، ودوّنوه في كتبهم بإذنه، كما مرّ في حديث أبي شاه، وحديث عبد الله بن عمرو، وبإقراره لهم كما مرّ أيضًا في حديث عبد الله بن عمرو، بل وبأمره بتقييد العلم حتى لا يندرس.
أقول: وكان هذا التقييد للعلم وتدوينه على نوعين:
الأول: جمع الأحاديث مدونة في كتاب، كيفما اتفق، بلا تأليف ولا ترتيب بينها، وهذا غالب جمعهم.
الثاني: جمع باب بعينه.
فمن الصنف الأول:
1 -
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، وقد تضمن أحكامًا كثيرة، وكان عند عمرو بن حزم (2).
2 -
كتاب عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وكان يُسمي صحيفته الصادقة، وقد مر.
(1) الأنوار الكاشفة (1/ 30 - 32).
(2)
النسائي كتاب القسامة (8/ 57) رقم 4853 - 4859، الأموال لأبي عبيد (358 - 362).
3 -
كتاب عند أنس بن مالك رضي الله عنه، كان يقول فيه: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضته عليه (1).
4 -
كان لسمرة بن جندب صحيفة كتب فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، يرويها عنه الحسن البصري (2)، وقد أثنى عليها محمد بن سيرين فقال: في رسالة سمرة إلى ابنه علم كثير.
5 -
كان لابن عباس رضي الله عنه صحيفة يكتب فيها أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، أخذها عن أبي رافع رضي الله عنه (3).
6 -
وكان لجابر رضي الله عنه مشهورة، عرفت عند الحدثين باسمه، أخرج منها مسلم نحوًا من ثلاثين حديثًا في الحج.
7 -
كانت عند علي بن أبي طالب صحيفة ذكرها البخاري وغيره، وجمع ابن حجر في فتح الباري قطعًا منها (4).
8 -
كتب عبد الله بن أوفى رضي الله عنهما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله إلى بعض أصحابه (5).
9 -
صحيفة سعد بن عبادة رضي الله عنه وهي سنن الترمذي.
ومن الصنف الثاني:
1 -
كتاب أبي بكر في فريضة الله في الصدقة، الذي كتبه عنه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال في أوله:(هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين)(6).
وفي رواية عند الحاكم (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قُبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض
…
) (7) وذكر الكتاب.
(1) المستدرك (3/ 574).
(2)
كيف تبحث أحوال الرواة المعلمي (27).
(3)
الطبقات الكبرى (2/ 123)، تقييد العلم للخطيب حققه يوسف العش (91، 92).
(4)
كيف تبحث أحوال الرواة للمعلمي (26).
(5)
صحيح البخاري (4/ 62) نقلًا عن توثيق السنة (52).
(6)
صحيح البخاري (1448، 1454).
(7)
المستدرك (3/ 150).