الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما كان المصلي مشتغلًا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شُرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب، والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث. وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل، لأنه يرى الشيطان؛ فلهذا أمر صلى الله عليه وسلم بالدنو من السترة خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته. (1)
قال ابن تيمية: فإن الكلب الأسود شيطان؛ الكلاب والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك صورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره؛ وفيه قوة الحرارة (2).
الوجه الثاني: أنه لما كان الكلب الأسود أشد ضررًا وقبحًا من غيره سُمي شيطانًا من باب التشبيه لا أكثر
.
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى إِنَّ المُرْأَةَ تَقْدَمُ مِنْ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ (3).
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم: "بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيم ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَان"، مَعْنَى الْبَهِيم الخَالِص السَّوَاد، وَأَمَّا النُّقْطتَانِ فُهِّمَا نُقْطتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَوْق عَيْنيْهِ وَهَذَا مُشَاهَد مَعْرُوف.
وَقَوْله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ شَيْطَان" احْتَجَّ بِهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَبَعْض أَصْحَابنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد الْبَهِيم، وَلَا يَحِلّ إِذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ شَيْطَان، إِنَّما حَلَّ صَيْد الْكَلْب.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: يَحِلّ صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد كَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ المَرَاد بِالحْدِيثِ إِخْرَاجه عَنْ جِنْس الْكِلَاب، وَلِهَذَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاء وَغَيْره وَجَبَ غَسْله كَمَا يُغْسَل
(1) فتح الباري لابن رجب 4/ 135.
(2)
مجموع الفتاوى 19/ 52.
(3)
مسلم (1572).
مِنْ وُلُوغ الْكَلْب الْأَبْيَض. (1)
قَالَ الْقَاضِي أبو لَيْلَى: فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ إِنَّهُ شَيْطَانٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنْ الْكَلْبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِبِل إِنَّهَا جِنٌّ وَهِيَ مَوْلُودَةٌ مِنْ النُّوقِ فَالجَوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ لَهُمَا بِالشَّيْطًانِ وَالجنِّ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَرُّ الْكِلَابِ وَأَقَلُّهَا نَفْعًا. وَالْإِبِلُ شِبْهُ الجنِّ فِي صُعُوبَتِهَا وَصَوْلَتِهَا، وَجَعَلَ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ شَيْطَانًا لِخَبَثِهِ، فَإِنَّهُ أَضَرُّ الْكِلَابِ وَأَعْقَرُهَا، وَالْكَلْبُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْهُ إِلَى جَمِيعِهَا، وَهِيَ مَعَ هَذَا أَقَلُّهَا نَفْعًا وَأَسْوَءُهَا حِرَاسَةً وَأَبْعَدُهَا مِنْ الصَّيْدِ وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا. (2)
قال ابن القيم: وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرهِ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ" فَهَذَا سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، وَأَوْرَدَهُ أَبُو ذَرٍّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْفَرْقِ الْبَيِّن فَقَالَ:"الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ"، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَظْهَرُ فِي صُورَةِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ كَثِيرًا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَظَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ مُرُورُ عَدُوِّ الله بَيْنَ يَدَيْ المُصَلِّي قَاطِعًا لِصَلَاتِهِ، وَيَكُونَ مُرُورُهُ قَدْ جَعَلَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَغِيضَةً إلَى الله مَكْرُوهَةً لَهُ، فَيَأْمُرُ المصَلِّيَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَإِنْ كَانَ المَرَادُ بِهِ أَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُ الْكِلَابِ فَإِنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الحَيَوَانَاتِ فِيهَا شَيَاطِينُ، وَهِيَ مَاعَتَا مِنْهَا وَتَمَرَّدَ، كَمَا أَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ عُتَاتُهُمْ وَمُتَمَرِّدُوهُمْ، وَالْإِبِلَ شَيَاطِينُ الأَنْعَامِ، وَعَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ؛ فَيَكُونُ مُرُورُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكِلَابِ - وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِهَا وَشَرِّهَا - مُبْغِضًا لِتِلْكَ الصَّلَاةِ إلَى الله تَعَالَى؛ فَيَجِبُ عَلَى المصَلِّي أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَقْطَعَ مُرُورُ الْعَدُوِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ وَليِّهِ حُكْمَ مُنَاجَاتِهِ لَهُ، كَمَا قَطَعَهَا كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ قَهْقَهَةٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ ألقَى عَلَيْهِ الْغَيْرُ نَجَاسَةً أَوْ نَوَّمَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا (3).
(1) شرح النووي 5/ 508: 507، فيض القدير 5/ 64.
(2)
تحفة الأحوذي 5/ 53، التمهيد 14/ 229، فيض القدير 5/ 64.
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/ 93.