الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - شبهة: الإسراء والمعراج
.
نص الشبهة:
إنكار حادث الإسراء والمعراج إذ هو لا يخضع لقوانين الكون الثابتة فكان ذكره من قبيل الخرافات التي يذكرها الإسلام.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: ثبوتها نقلًا وعقلًا
.
الوجه الثاني: الله لا يخضع لقوانين الكون وهو سبحانه على كل شيء قدير.
الوجه الثالث: اعتقاد أهل السنة والجماعة في حادثة الإسراء والمعراج.
الوجه الرابع: قدرة الإنسان محدودة بالنسبة لقدرة المخلوقات الأخرى.
الوجه الخامس: ذكر بعض الأحداث التي دست في حادثة الإسراء والمعراج.
الوجه السادس: الرد من الكتاب المقدس.
وإليك التفصيل،
الوجه الأول: ثبوتها نقلًا وعقلًا.
أما نقلًا: من الكتاب: قال الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
قال الطبرى: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات. (1)
من السنة: عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنهما، أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: "بَيْنَمَا أنا فِي الحَطِيمِ، - وَرُبَّما قَالَ: فِي الحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ
(1) تفسير الطبري 15/ 16.
أتانِي آتٍ، فَقَد: قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ - فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ - فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَملُوءَةٍ إِيَمانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ البَغْلِ، وَفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ، - فَقَالَ لَهُ الجارُودُ: هُوَ البُرَاقُ يَا أبا حَمْزَةَ؟ قَالَ أنسٌ: نَعَمْ - يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أتى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ، فَلَمّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أتى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ، فَلَمّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِما، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالا: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ، فَلَمّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أتى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ، فَلَمّا خَلَصتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأخ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي، حَتَّى أتى السَّمَاءَ الخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أتى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأخ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمّا تجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي البَيْتُ المَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: هِيَ الفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالجتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسألهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالجتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ
التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: سَألتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي" (1).
وأما عقلًا:
قال الرازى: أما المقام الأول: وهو إثبات الجواز العقلي، فنقول: الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع، فنفتقر هاهنا إلى بيان مقدمتين:
المقدمة الأولى: في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور، نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع، وبتقدير أن يقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم، فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر، فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم.
الثاني: وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة، ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه.
الثالث: أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعًا في العقول، كان القول بنزول
(1) البخاري (7517، 3887)، مسلم (162).
جبريل عليه السلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعًا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنًا في نبوة صع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه السلام في اللحظة من العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلًا كان ما ذكروه أيضًا باطلًا.
فإن قالوا: نحن لا نقول إن جبريل عليه السلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرًا متجليًا في ذات جبريل عليه السلام.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه السلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويًا، رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم له تلك التفاصيل، فكلما ذكر شيئًا قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقًّا، فقال له الرسول: وأنا أشهد أنك الصديق حقًّا، وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ .
الرابع: أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس، ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس، فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان، أما الذين يقولون
إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني، فهذا الإلزام غير وارد عليهم، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل.
فإن قالوا: هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه؟
قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني.
الخامس: أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفة مسير سليمان عليه السلام: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] بل نقول: الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة، وذلك أيضًا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.
السادس: أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]، وإذا كان ممكنًا في حق بعض الناس، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود.
السابع: إن من الناس من يقول: الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر، ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل، رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية: في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنعًا، والذي يدل عليه أنَّا بينَّا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادرًا عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصل في جميع المعجزات، فانقلاب العصا ثعبانًا تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب، وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع، والله أعلم. (1)
وقال رحمت الله الهندي: أما عقلًا: فلأن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادرًا عليه، وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة والمعجزات كلها تكون كذلك. (2)
وأما عن قولهم: لماذا قال {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ؟ لماذا ذكر كلمة (ليلًا) والإسراء لا يكون إلا بالليل؟
(1) تفسير الرازي 20/ 148.
(2)
إظهار الحق 4/ 1023.