الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ تَزَلْ قَرْنَا الْكَبْشِ فِي الْبَيْتِ حَتَّى احْتَرَقَ الْبَيْتُ فَاحْتَرَقَا.
اعتراض على مسألة قرن الكبش:
قال الطبري معترضًا على من استدل بوجود قرن الكبش في مكة (في الكعبة):
وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى الكعبة فعلق هناك (1).
فرد ابن تيمية قائلًا: فبعد أن استدل بقصة قرن الكبش قال: وَلهذَا جُعِلَتْ مِنًى مَحَلًّا لِلنُّسُكِ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام وَهُمَا اللَّذَانِ بَنيَا الْبَيْتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ إسحاق ذَهَبَ إلَى مَكَّةَ لَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، لَكِنَّ بَعْضَ المؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبْحِ كَانَتْ بِالشَّامِ فَهَذَا افْتِرَاءٌ. فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ بِبَعْض جِبَالِ الشَّامِ لَعُرِفَ ذَلِكَ الجبَلُ وَرُبَّما جُعِلَ مَنْسَكًا كَمَا جُعِلَ المُسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ المُشَاعِرِ (2).
6 - الحجة السادسة: الاستدلال بما فرق الله بين الذبيح وإسحاق بذكرهما ذكرًا مستقلًا
.
بعد ذكر الله تعالى المبشر به الذي صار ذبيحًا، والمبشر به الذي هو إسحاق، ذكر أحوالهما بقوله:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، فجعلهما اثنين مرتين، وإذ ثبت أن المبشر به أولًا غير المبشر به ثانيًا، والذبيح هو الأول، وإسحاق هو الثاني، ثبت ما ادعيناه. وأما القول بأن المراد ههنا بالاثنين هو إبراهيم وإسحاق عليهما السلام فهو تأويل ضعيف لوجوه:
1 -
قد فرغ عن ذكر بركة إبراهيم عليه السلام بما سبق من قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 109 - 111).
ألا ترى فيما تقدم وتأخر من ذكر المرسلين كيف ختم ذكرهم بمثل هذه الجملة؟ .
= وأما عن ذكرها في الثقات لابن حبان 4/ 386 فهذا لا يتناقض مع كونها صحابية، فقد ذكرها أيضًا في موضع قبل ذلك (3/ 197) وقال: صفية بنت شيبة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأته طاف عام الفتح على بعير
…
).
(1)
تفسير الطبري 23/ 55.
(2)
مجموع الفتاوى 4/ 336.
وذلك قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} (الصافات: 78 - 83)، وقوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (الصافات: 120 - 123)، وقوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (الصافات: 130 - 133)، وختم السورة بقوله تعالى:{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 181 - 182).
فالظاهر أنه بعد الفراغ عن قصة إبراهيم ختمها بالسلام عليه، ثم ذكر ما خص به ذريته، وإذ قد اشتمل قصته ذكر بشارة ابنه الأول أعقبه ذكر بشارة ابنه الثاني، ثم ختم ذكرهما ببركتهما كذكر سائر الأنبياء.
2 -
قد جعل الله البركة لإسماعيل وإسحاق، وأعطى ذريتهما موضعين مباركين، وقد دعا إبراهيم عليه السلام لبركة مسكن إسماعيل، وقد صرحت التوراة بأن الله تعالى بارك إسماعيل-عليه السلام.
فهذه الوجوه تستدعي ذكر بركتهما، فلا يصرف عنه إلا دليل يلجئ إلى التخصيص.
وإذ لا وجه للتخصيص فلا بد أن يؤخذ بما هو أوسع وأحسن تأويلًا، وهو ذكر إسماعيل وإسحاق، ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين.
3 -
كما أن الله تعالى ذكر بركته على عباده الصالحين في مواضع من القرآن، واعتنى بذكر بركته على خواصهم، فذكر بركته على إسماعيل وإسحاق في التوراة والقرآن ليعلم ذريتهما من العرب واليهود ما يجب عليهم من الشكر، فكذلك كان حريًا بالذكر أنهم صاروا قسمين: فمنهم من أحسن، ومنهم من ظلم نفسه، لكي يتذكروا. وهذا كثير في التوراة والقرآن مثلًا قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26]، أيضًا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
…
} [فاطر: 32].
فهكذا ههنا نبه العرب واليهود كليهما على ما دخل فيهما من الفساد، وسيأتيك بعض بيانه في أواخر هذا القسط.
فقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} ، يدل بظاهره على أن المراد به ذكر ذرية إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، فإن الأخبار بكون بعضها محسنًا وبعضها ظالمًا لنفسه كما يطابق بذرية إسحاق، فهكذا يطابق بذرية إسماعيل، والقرآن أحسن جوامع الكلم. وهذا المعني الحري بالذكر لا يظهر بصرف الضمير إلى إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، وذلك بأنك حينئذ إما أن تريد ذرية واحدة أي الذرية الشتركة بين إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، كما جاء في دعاء إبراهيم عليه السلام في بني إسماعيل عليه السلام:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، فأراد بـ (ذريتنا) ذرية إسماعيل التي هي ذرية إبراهيم عليه السلام أيضًا، فعلى هذا يصير الخبر مختصًا بذرية إسحاق عليه السلام فقط، فلم يحصل المعنى المقصود، وصار ذكر ما هو الأهم متروكًا.
وإما أن تريد ذريتين: الأولى ذرية إسحاق الخاصة وهم يعقوب ونسله، وعيص ونسله، والثانية ذرية إبراهيم الخاصة به قبل ذلك، وهم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام أنفسهما، فذلك لا يصح، فإن ذرية إبراهيم المخصوصة به ليس فيها ظالم لنفسه.
فالآن لم يبق لك إلا القول بأن المراد ههنا ذرية إسماعيل وذرية إسحاق، ولكن عبر عن ذرية إسماعيل بذرية إبراهيم، فنقول: هذا المعنى أظهر إذا صرف الضمير إلى إسماعيل عليه السلام الذي سبق ذكره، وإلى إسحاق عليه السلام الذي يتلوه، ثم قد سبق ذكرهما في قوله:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات: 113) حسبما بينا آنفًا، ثم لا داعية ههنا للتعبير عن ذرية إسماعيل عليه السلام بذرية إبراهيم عليه السلام، ولجعلها في مقابلة ذرية إسحاق عليه السلام.