الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: أنه إن صحت هذه الحكاية؛ فإنما قال: (أحاديث علمائهم) ولم يقل: (أحاديث أنبيائهم)، وكلمة (حديث) بمعنى:(كلام)، واشتهارها فيما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم اصطلاح متأخر، وقد كان بعض الناس يثبتون كلام علي في حياته، وفي مقدمة صحيح مسلم، عن ابن عباس ما يعلم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضاء علي، منها ما عرفه ابن عباس، ومنها ما أنكره، ولفظه:"فدعا بقضاء علي، فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل".
ثم ذكر عن طاوس قال: "أتى ابن عياش بكتاب فيه قضاء علي
…
".
فإن صحت هذه الحكاية؛ فكأن بعض الناس كتب شيئًا من كلام علي، أو غيره من العلماء، فتناقله الناس، فبلغ عليًا ذلك؛ فقال ما قال.
الوجه السادس: كتابة التابعين للسنة وحفظها، وضوابط ذلك:
وأما تدوين السنة في عصر التابعين، فكل تابعي له صحيفة، أو كتاب يرويه عن الصحابة، لكن كانت الأحاديث تجمع بلا تأليف ولا ترتيب، ومن ذلك:
1 -
صحيفة همام بن منبه اليماني عن جبل السنة أبي هريرة رضي الله عنه، وقد جاء منها في مسند أحمد (1) نحوًا من أربعين ومئة حديث، وهي مفرقة في الصحيحين، وغيرهما من كتب السنة.
2 -
صحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص.
3 -
صحيفة وهب بن منبه عن جابر رضي الله عنه (2).
4 -
صحيفة الحسن البصري عن سمرة رضي الله عنه.
5 -
ومن ذلك: كتب عروة بن الزبير التي احترقت يوم الحرة (3)، وكان يقول: وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي (4).
(1) مسند أحمد (2/ 312، 319).
(2)
وقد حدث بصحيفة جابر أيضًا قتادة، والحسن البصري.
(3)
وقعة الحرة كانت سنة 63 في خلافة يزيد.
(4)
المحدث الفاصل (376) رقم 353، تقييد العلم (60)، جامع بيان العلم (1/ 153).
6 -
ومن ذلك كتب عبد الرحمن بن الزناد كان يقول: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه؛ علمت أنه أعلم الناس (1).
7 -
ومن ذلك كتب صالح بن كيسان قال: كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
8 -
ومن ذلك كتب الحسن البصري يقول الحسن: إن لنا كتبًا نتعاهدها (3).
9 -
ومن ذلك كتب الشعبي التي دوّن فيها السنن، حتى قال: الكتاب قيد العلم (4).
10 -
ومن ذلك كتب سعيد بن جبير، حتى بلغ من حرصه أنه كان إذا جالس ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فيسمع منهما الحديث، فيكتبه في واسطة الرحل فإذا نزل نسخه (5).
- وابن عقيل، ومحمد بن الحنفية، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن يزيد الجرمي، وقتادة بن دعامة السدوسي، وخلق كثير (6).
فأنت ترى بوضوح: أن الزعم بأن السنة لم تكن مكتوبة مدونة سوى في منتصف القرن الثاني للهجرة، وأن المسلمين لم يكن لهم كتاب مكتوب سوى القرآن، دعوى عارية من الصحة، بعيدة عن الصواب "وشر المطية زعموا".
قال ابن رجب: اعلم أن العلم المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم -من أقواله وأفعاله- كان الصحابة رضي الله عنهم في زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم يتداولونه بينهم، حفظًا له ورواية، ومنهم من كان يكتب،
(1) تهذيب الكمال (26/ 422)، تاريخ دمشق (58) رقم 58.
(2)
الطبقات الكبرى (2/ 388)، المعرفة والتاريخ (1/ 63)، الحلية (3/ 36)، تاريخ دمشق (62)
(3)
الجامع لأخلاق الراوي (104)، الحدث الفاصل (371)، تقييد العلم (100، 101)، جامع بيان العلم وفضله (1/ 152).
(4)
المحدث الفاصل (35) رقم 35، تقييد العلم (99) جامع بيان العلم (1/ 153)
(5)
سنن الدارمي (1/ 138، 495)، تقييد العلم 1/ 130. جامع بيان العلم (1/ 14)
(6)
انظر: على سبيل المثال: كتاب تقييد العلم للخطيب (99 - 108) على أن الدكتور محمد مصطفى الأعظمي أحصى في كتابه "دراسات في الحديث النبوي "أكثر من خمسين ومائة تابعي (150) ممن دوّن السنة، ولم يزعم بعمله هذا أنه استقصى، أو أراد الاستقصاء في البحث فلله درّهم.
ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بعض الصحابة يرخص في كتابة العلم عنه، وبعضهم لا يرخص في ذلك، ودرج التابعون أيضًا على هذا الاختلاف، والذي كان يكتب في زمن الصحابة والتابعين لم يكن تصنيفًا مرتبًا مبوبًا، إنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط، ثم إنه في عصر تابعي التابعين صنف التصانيف (1).
وقد كانت تصانيفهم تجمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين، وكان من أوائل من صنف من أتباع التابعين على ما ذكر العلماء: ابن جريج بمكة، ومالك بن أنس بالمدينة، والربيع بن صبيح، وحماد بن سلمة، وسعيد بن أبي عروية بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، ومعمر باليمن، وعبد الله بن المبارك بخراسان، والأوزاعي بالشام، وهشيم بواسط، وجرير بن عبد الحميد بالرِّي (2).
قال العراقي وابن حجر: وكان هؤلاء في عصر واحد فلا ندري أيهم أسبق (3).
وقد وصل إلينا من مصنفات أتباع التابعين، كتاب (الموطأ) لإمام دار الهجرة مالك بن أنس (93 - 179 هـ).
قال الشافعي عنه: ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابًا من موطأ مالك بن أنس (4).
وكتاب (الموطأ) مشهور شهرة عظيمة، وقد طُبع ما لا يحصى من المرات، وقد رواه عن مالك خلق كثير، ولكن أشهر رواية له هي رواية يحيى بن يحيى الأندلسي.
وكذلك وصل إلينا كتاب (الجامع) لمعمر بن راشد الصنعاني (ت 154 هـ)، وقد طُبع مع مصنف عبد الرزاق في آخر ملحق به (5).
(1) فتح الباري (1/ 36 - 37).
(2)
انظر مقدمة فتح الباري (8)، وشرح علل الترمذي (1/ 37 - 38 - 39)، وتدريب الراوي (1/ 89).
(3)
تدريب الروي (1/ 89).
(4)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 77).
وقال ابن الصلاح: إنما قال الشافعي ذلك قبل وجود كتابي: البخاري ومسلم.
وقال ابن حجر: إنَّ الشافعي إنَّما أطلق على الموطأ أفضلية الصحة بالنسبة إلى الجوامع الوجودة في زمنه: كجامع سفيان الثوري، ومصنف حماد بن سلمة، وغير ذلك، وهو تفضيل مُسلَّم لا نزاع فيه. مقدمة فتح الباري (12).
(5)
المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية (1403 هـ).
وكذلك وصل إلينا جزء من (الجامع الصغير) للإمام العلم: سفيان بن سعيد الثوري، ولسفيان الثوري جامعان:(الجامع الصغير)، وهو آثار كله، كما قال أبو العرب القيرواني في (طبقاته)، و (الجامع الكبير في الفقه والاختلاف)، وهذا الكتاب اشتمل بالإضافة إلى الآثار على أقوال كثيرة لسفيان الثوري وفتاويه (1).
ووصل إلينا أيضًا مصنفات لعبد الله بن المبارك (118 - 181 هـ) ككتاب (الزهد) وكتاب (الجهاد)، وكلاهما مطبوع.
وقال ابن حجر: ثم تلا المذكورين -أي أتباع التابعين الذين بدأوا التصنيف- كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعضُ الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندًا، وصنف مُسَدَّد البصري مسندًا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندًا، ثم اقتفى الأئمة آثارهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة (2).
والمسند هو: كتاب يجمع فيه صاحبه ما رواه كل صحابي على حدة، فيبدأ مثلًا بما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ما رواه عمر، ثم ما رواه عثمان، ثم ما رواه علي، وهكذا، ولا يكون ترتيبًا على الأبواب الفقهية.
وقد صنف المسند بالإضافة إلى من ذكرهم ابن حجر:
- أبو داود الطيالسي (133 - 204 هـ)، بل قال الحاكم، والخليلي في (الإرشاد): أنَّ أولَّ من صنف المسند على ترتيب الصحابة بالبصرة: أبو داود الطيالسي، وبالكوفة عبيد الله بن موسى (3).
(1) استفدنا هذا من تحقيق الدكتور عاصم حسن صبري لكتاب الزهد للمعافى بن عمران الموصلي (ت 185 هـ)، وهو أحد رواة (الجامع) عن سفيان.
(2)
تدريب الراوي، للسيوطي (1/ 89)، نقلًا عن ابن حجر.
(3)
الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليل بن عبد الله بن الخليل الخليلي القزويني (149).
وقول الحاكم نقله عنه ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/ 40).
- وكذلك صنف الحميدي (ت 219 هـ)، وهو من شيوخ البخاري مسندًا، وكثير من هذه المسانيد مطبوعة ومتداولة.
ثم دخل القرن الثالث للهجرة، وهو العصر الذهبي لتدوين السنة النبوية الشريفة، وما انخرم هذا القرن إلا والسنة النبوية قد دُونت بالكامل تقريبًا، فما من إمام من أئمة الحديث الحفاظ إلا وصنف كتابًا يجمع فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، التي سمعها بالأسانيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من أبرز وأشهر من دون السنة في هذا العصر: إمام المحدثين، وجبل الحفظ وقدوة العلماء، العالم الرباني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256 هـ).
ورأى أن يفرد صحيح الأحاديث بكتاب، فصنف كتابه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)(1)، وهو المشهور بـ (صحيح البخاري)، وكان مَمَّا قوَّى عزمه على تأليف هذا الكتاب: أنه كان يومًا عند شيخه إسحاق بن راهويه فقال إسحاق: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع (الجامع الصحيح)(2).
قال الإمام النسائي: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل (3).
ثم تلاه صاحبه وتلميذه: الإمام الحجة أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (204 - 261)، وسار على دربه، ونسج على منواله، وأفرد الأحاديث الصحيحة بكتاب، وهو المشهور بـ (صحيح مسلم)، ولكن البخاري ومسلم -كلاهما- لم يستوعبا الصحيح كله. فعن إبراهيم بن معقل قال: سمعتُ البخاري يقول: ما أدخلتُ في كتابي (الجامع) إلا ما صح، وتركتُ من الصحاح لحال الطول (4).
(1) ذكر هذا الاسم ابن حجر في مقدمة فتح الباري (15)، وذكر النووي في (تهذيب الأسماء واللغات)(1/ 73)، أن اسمه (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه).
(2)
مقدمة فتح الباري (9).
(3)
مقدمة فتح الباري (12).
(4)
أخرجه الحافظ المزي في تهذيب الكمال (24، 442).
وكذلك مسلم لم يستوعب كل الصحيح، قال النووي:
اتفق العلماء على أنَّ أصح الكتب بعد القرآن العزيز: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أنَّ مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنَّه ليس له نظير في علم الحديث (1).
وقال ابن كثير: أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وتلاه صاحبه وتلميذه مسلم بن الحجاج، فهما أصح كتب الحديث (2).
وصنف أيضًا -مع البخاري ومسلم في هذا العصر- أصحاب السنن الأربعة سننهم، وهي:(سنن أبي داود) لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (202 - 275)، و (سنن الترمذي) أو (جامع الترمذي) لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (210 - 279)، و (سنن ابن ماجه) لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (209 - 273)، المعروف بابن ماجه، و (سنن النسائي) لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وقد اختصره ابن السُّنِّي وهو تلميذ النسائي وسمَّاه (المجتبى) كما قال الذهبي (3).
فللنسائي كتابان: الأول، ويعرف (بالسنن الكبرى)، والثاني وهو (المجتبى)، وهو اختصار واختيار تلميذه ابن السُّنِّي.
وهذه الكتب الأربعة جمعت الصحيح والضعيف، ويطلق عليها: كتب السنن، ويطلق عليها مع الصحيحين: الكتب الستة، وهي أشهر كتب السنة، بالإضافة إلى (موطأ) مالك، ومسند أحمد بن حنبل.
وممن صنف أيضًا في هذا العصر الذهبي غير أصحاب الكتب الستة:
(1) شرح صحيح مسلم للنووي (1، 14).
(2)
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (102 - 103).
(3)
سير أعلام النبلاء (16/ 256).