الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففيه حث للصحابة على حفظ الحديث بالكتاب، وبث ذلك في الناس، وذلك في كل الأحوال، حال الرضا وحال الغضب، وفي ذلك أيضا دلالة على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم كله مدون معروف، بل إن الله تعالى حث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن على بث سنته الخاصة في تعامله في بيوته صلى الله عليه وسلم، فهذه لا يطلع عليها إلا زوجاته، فقال عز وجل:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34).
أقول: وكلا الأمرين كان معروفًا في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب". (1)
الوجه الثالث: حفظ السنة عند الصحابة
من مظاهر حفظ السنة عند الصحابة رضي الله عنهم: الحرص على سماعها، وروايتها، وكتابتها، وذلك يتجلى في أمور منها:
1 -
حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على سماع الحديث، وحفظه وتأديته كما سمعوه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"نَضَّرَ الله امْرءًا سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ". (2)
2 -
أمره بتبليغ العلم لمن لم يحضر مجلس السماع، ومن ذلك قوله:"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". (3)
وقوله لوفد عبد قيس حين علمهم العلم "احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم"(4).
3 -
إعادته للحديث ثلاثًا؛ حتى يحفظ عنه ويفهم، فمن ذلك قول أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم
(1) رواه البخاري (113).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (67، 105)، ورواه مسلم (1679).
(4)
رواه البخاري (6176، 7266، 7556) ومسلم (17).
عليهم؛ سلم عليهم ثلاثًا". (1)
4 -
بيانه صلى الله عليه وسلم أن ما بعث به هو العلم وحثه على أخذه، وبيان أن مقادير الناس عند الله تتباين بأخذهم لذلك العلم، وذلك شيء كثلإهـ في سنته، فمنه قوله صلى الله عليه وسلم:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ...... الحديث"(2).
5 -
تحذيره من الجهل، وأنه من أشراط الساعة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من أشراط الساعة: أن يقل العلم ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرحال، حتى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحد"(3).
6 -
تخولهم بالموعظة والعلم، وتخير الأوقات المناسبة لذلك؛ حتى لا ينفروا، فمن ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا. (4)
7 -
تفرغ الصحابة لسماع العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا على ضربين:
الأول: التفرغ الكامل من كل عمل أو شاغل، حتى عن طلب الرزق والأهل والولد حبًّا في سماع العلم حتى لازموه صلى الله عليه وسلم في حله- إقامته-، وترحاله - سفره - يلحظون ما يفعل، ويحفظون عنه ما يقول، ومن هؤلاء أبو هريرة رضي الله عنه، يقول عن نفسه:"إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"(5).
الثاني: التفرغ الجزئي، بأن يفرغ قدرًا من وقته لسماع العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الصحابة الحاضرين عما فاته، وهو ما يسمى بـ (التناوب في طلب العلم)، فمن ذلك قول
(1) رواه البخاري (95).
(2)
رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).
(3)
رواه البخاري (81)، ومسلم (2671).
(4)
رواه البخاري (6411)، ومسلم (2821).
(5)
رواه البخاري (2223)، ومسلم (6555).
عمر رضي الله عنه: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك .... ) (1).
8 -
حرص الصحابة على فهم الحديث قبل بثه في الناس، فمن ذلك قول ابن أبي
مليكة: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه؛ حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حوسب عذّب قالت عائشة: فقلت: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (الانشقاق: 8) قالت: فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك. (2)
9 -
تثبت الصحابة عند رواية الحديث، ولذلك مظاهر منها: الإقلال من الرواية، والحرص على أداء الألفاظ دون تغيير؛ حرصًا منهم على عدم الوقوع في الإثم، فمن ذلك قول أنس: رضي الله عنه إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليّ كذبا؛ فليتبوأ مقعده من النار". (3)
وقول الزبير رضي الله عنه حين سأله ابنه عبد الله: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدث فلان وفلان، قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: "مَن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار". (4)
ولذلك تجد التخصص في رواية السنة محصور في عدد قليل من الصحابة، في حين أنهم عدد كبير، حتى قال أبو زرعة الرازي: شهد معه حجة الوداع أربعون ألفًا، وكان معه بتبوك سبعون ألفا، وقُبض صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة (5)، ومجموع
(1) رواه البخاري (2468)، ومسلم (1479).
(2)
رواه البخاري (6537)، ومسلم (2876).
(3)
رواه البخاري (108)، ومسلم (2).
(4)
رواه البخاري (107).
(5)
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (2/ 506)، وانظر الجامع للخطيب (1894)، وفتح المغيث (4/ 109)، طبقات ابن سعد (2/ 377)، الإصابة (1/ 4، 3).
تراجم الصحابة التي في الإصابة (12279). في حين أن عدد مسانيد الصحابة الرواة في مسند بقي بن مخلد - وهو من أهم مصادر السنة - (1301).
قال ابن حزم: مسند (بقي) روى فيه عن ألف وثلاث مئة صاحب ونيف، رواة الآلاف منهم سبعة، وهم على الترتيب: أبو هريرة، ثم عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثم أنس بن مالك، ثم عائشة أم المؤمنين، ثم عبد الله بن عباس، ثم جابر بن عبد الله، ثم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. (1)
وقد تتبع العلماء الرواة من الصحابة، وما لكل واحد منهم، ومن ذلك: ما فعله ابن الجوزي في: (تلقيح فهوم أهل الأثر)(2)، وابن حزم في:(الرسالة الثانية من جوامع السيرة)، تحت عنوان: أسماء الصحابة الرواة، وما لكل واحد من العدد، وقد عد ابن حزم مسانيد الصحابة فيه (1010).
قال ابن حزم: هذا باب في ذكر مَن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم حديثًا فما فوقه، ممن نُقل الحديث عنهم على مراتبهم في ذلك:
أصحاب الألوف وما زاد منهم، ثم أصحاب الألفين وما زاد، ثم أصحاب المائتين وشيء، ثم أصحاب المائة وشيء، ثم أصحاب العشرات وشيء، ثم أصحاب العشرين وشيء، ثم أصحاب التسعة عشر ثم، أصحاب الثمانية عشر، ثم أصحاب السبعة عشر، ثم كذلك نقص واحد واحد إلى أصحاب الإفراد.
وبهذا يتبين لك أن الصحابة الرواة على طبقات:
1 -
الطبقة الأولى: رواة الآلاف إلى الألف، وعددهم سبعة أصحاب.
2 -
الطبقة الثانية: من روى أقل من الألف إلى خمس مئة حديث، وعددهم أربعة أصحاب.
3 -
الطبقة الثالثة: من روى أقل من خمس مئة حديث إلى مئة حديث، وعددهم سبع وعشرون صحابيًا.
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 152).
(2)
تلقيح فهوم أهل الأثر (184).
4 -
الطبقة الرابعة: من روى أقل من مئة حديث إلى عشرة أحاديث، وعددهم ستة وخمسون ومئة صاحب.
5 -
الطبقة الخامسة: من روى أقل من عشرة أحاديث إلى خمسة أحاديث، وعددهم ثماني عشرة ومئة صاحب.
6 -
الطبقة السادسة: من روى أقل من خمسة أحاديث إلى حديثين اثنين فقط، وعددهم تسعة وأربعون ومائتا صاحب.
7 -
الطبقة السابعة: من ليس له سوى حديث واحد فقط، وعددهم تسعة وأربعون وأربع مئة.
فأنت ترى بوضوح من خلال هذا:
أن الصحابة كانوا يتوقون الرواية، وأن الرواة منهم كانوا أهل تخصص في نشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أن الصحابة كانوا لا يروون إلا ما تثبتوا منه؛ حرصًا على أداء الألفاظ والمعاني دون تغيير.
أن إقلال الصحابة من الرواية نسبي فأنس رضي الله عنه من المكثرين ومع ذلك يقول: (إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا ..... ).
أن بعض الصحابة أقل من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اكتفاء بمن قام بالبلاغ كما في حديث الزبير رضي الله عنه، وخوفًا من عدم الضبط.
أن الصحابة كانوا يتوقون رواية الحديث بالمعنى؛ خوفًا من عدم الإتقان، فمن ذلك:(أن مسروقًا حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعد وارتعدت ثيابه ثم قال: أو نحو هذا .. )(1)
أن الصحابة كانوا يتذاكرون الحديث؛ خشية نسيانه، فمن ذلك: قول عبد الله بن مسعود: (تذاكروا الحديث فإن حياته مذاكرته)(2).
وما جاء عن أبي سعيد رضي الله عنه (تذاكروا الحديث؛ فإن الحديث يهيج بعضه بعضًا). (3)
(1) المستدرك (1/ 111)، قال الذهبي: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شواهد فيه عن عبد الله.
(2)
المستدرك (1/ 193، 376) ومعرفة علوم الحديث (140، 141).
(3)
المستدرك (1/ 173 - 323)، الدارمي (1/ 155 - 595).