الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا المعنى يترتب قبول شهادة الناس الذين عاشوا مع هذا الميت وحضروا حاله ومعيشته، فهم يعلمون على أي شيء كان، فهم لا يتكلمون بغير علم أو على سبيل الظن، بل من طريق المعاينة والمشاهدة لحاله، ووجه قبول هذه الشهادة؛ أن الشهادة بالخير لمن شهد له ستر من الله سبحانه عليه في الدنيا، ومن ستر الله عليه في الدنيا لم يرفع عنه ستره في الآخرة، ومن لم يرفع الله عنه ستره في الآخرة أدخله الله الجنة، والشهادة بالشر في الدنيا: هو رفع الستر عن المشهود عليه، وهو في ذلك ضد من أثنى عليه خير في الدنيا فكذلك هو في الأخرى فيستحق النار (1).
فمن هذا الكلام يكون للشهادة الأهمية البالغة في تحديد مصير الإنسان، فهم يحكمون كما قلنا على ما عاينوه وشاهدوه.
ومن أهميتها أن يكون الله قد كتب لهذا الإنسان السعادة، وهو على بعض التقصير، فيقيد الله له من يشهد له عند خاتمته فيدخل الجنة بشهادة من عايشه وحاضره، وهذا من رحمة الله الواسعة. (2) وكذلك من أهمية الشهادة أنها عاجل بشرى المؤمن.
فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ". (3)
قال النووي: قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم. (4)
وإليك المعنى الصحيح للحديث:
(1) المعتصر من المختصر من مشكل الآثار 1/ 116.
(2)
انظر شرح النووي لمسلم 4/ 23 - 24.
(3)
مسلم (2642).
(4)
شرح النووي 8/ 439.
عن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رضي الله عنه مَا وَجَبَتْ قَال: "هَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أنتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الْأَرْضِ". (1)
قال النووي: وأما معناه ففيه قولان للعلماء:
أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، فكان ثناؤهم مطابقًا لأفعاله فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك فليس هو مرادًا بالحديث.
والثاني: وهو الصحيح المختار أنه على عمومه وإطلاقه وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلًا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضى ذلك أم لا، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة، بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وجبت، وأنتم شهداء الله" ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة فإن قيل: كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟ . (2)
فالجواب: أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرًا كان مشهورًا بنفاق أو نحوه مما ذكرناه. (3)
قال ابن حجر: فيه بيان لأن المراد بقوله: "وجبت" أي الجنة لذي الخير والنار لذي الشر،
(1) البخاري (1367)، مسلم (949).
(2)
البخاري (1393) عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا".
(3)
شرح مسلم للنووي 4/ 23 - 24.