الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما حكى الله تعالى عن بعض أنبيائه ورسله السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد، والعمل بمضمونه:
1 -
فموسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء من أقصا المدينة يسعى قائلًا له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فجزم بخبره وخرج هاربًا، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له:{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25). وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما ابنتاه، فتزوج إحداهما بناء على خبره.
2 -
وقبل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (يوسف: 50).
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف؛ لأجبت الداعي". (1)
ثالثا: الأدلة من السنة:
1 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع."(2)
قال الشافعي: فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها - والامرئ واحد (3) - دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا. (4)
2 -
وعن عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه، أو أمرت به فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
(1) مسلم (151).
(2)
رواه الترمذي (2657)، مسند أحمد (1/ 436)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (11710).
(3)
يعني: فلما أمر عبدًا أن يؤدي ما سمع، والخطاب للفرد وهو الواحد.
(4)
الرسالة (402 - 403).
قال الشافعي رحمه الله: (وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله، وإعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا له نص حكم في كتاب الله، وهو موضوع). (1)
3 -
وحديث مالك بن الحويرث، حين وفد مع بعض قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال:"إذا حضرت الصلاة؛ فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". (2)
4 -
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم"(3)
وفي رواية لابن عمر: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"(4).
ففي هذه الأحاديث: الأمر بتصديق المؤذن، والعمل بخبره في دخول وقت الصلاة، والإفطار والإمساك مع أنه واحد، ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بآذانهم في هذه العبادات، وهو من أوضح الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد.
واشتهر بعثه صلى الله عليه وسلم الآحاد من صحابته، واعتماده على أخبارهم وعمله بموجبها.
6 -
عن أبي هريرة، وزيد بن خالد في قصة العسيف، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها (5) "، فاعتمد صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد، وقتل نفس مسلمة.
7 -
وفي يوم الأحزاب اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الزبير - وهو واحد - حين قال: "من يأتيني بخبر القوم؟ (6).
(1) المصدر السابق (403 - 404).
(2)
البخاري (602)، ومسلم (674).
(3)
البخاري (596)، مسلم (1093).
(4)
البخاري (592)، مسلم (1092).
(5)
البخاري (2190)، مسلم (1697، 1698).
(6)
البخاري (3887)، مسلم (1788).
8 -
وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة، ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ، وتعليم الناس أحكام الإسلام وشرائعه، والنيابة عنه في الفتوى والقضاء، والفصل في الخصومات.
- فمن ذلك ما رواه الشافعي بإسناد صحيح، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذه أيام طعام وشراب؛ فلا يصومن أحد"(1).
- وحديث يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفًا بعرفة، مكانًا بعيدًا من الموقف الإمام، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال:"إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام"(2).
- وقال لأهل نجران: "لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين"، فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه (3).
قال الشافعي: وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار، وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالًا، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة؛ فيكونون مستقبلين بكتاب الله، وسنة نبيه، سماعًا من رسول الله ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه حدث عليهم من تحويل القبلة، ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله، إذا كان من أهل الصدق.
(1) مسند الشافعي (1192).
(2)
النسائي (5/ 255)، وصححه الألباني.
(3)
البخاري (4120)، مسلم (2420).
ولا ليحدثوا أيضًا مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثه، ولا يَدَعُونَ أن يخبروا رسول الله بما صنعوا منه، ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة - وهو فرض - مما يجوز لهم؛ لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبر عامة، أو أكثر من خبر واحد عني (1).
* وحديث أنس رضي الله عنه قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة، وأبي بن كعب شرابًا من فضيخ، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها"(2).
قال الشافعي: وهؤلاء في العلم والمكان من النبي، وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالًا يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر؛ فأمر أبو طلحة - وهو مالك الجرار - بكسر الجرار، ولم يقل هو، ولا هم، ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وذلك أنهم لا يهريقون حلالًا إهراقه سرف، وليسوا من أهله، والحال في أنهم لا يدعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يدع، لو كان قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله. (3)
* وكذلك قضاء عمر رضي الله عنه في الجنين حين قال لأصحابه: "أُذكر الله امرءًا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئًا، فقام حمل بن مالك فقال: "كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم نسمع به لقضينا بغيره.
(1) الرسالة (406 - 408).
(2)
رواه البخاري (6826)، ومسلم (1980).
(3)
الرسالة (409).
* ورجوعه بالناس حين خرج إلى الشام، فبلغه أن الوباء قد وقع بها، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمعتم به ببلدة؛ فلا تقدموا عليه"(1).
* وقبل خبر عبد الرحمن أيضًا في أخذ الجزية من مجوس هجر، بعد أن قال:(ما أدري: كيف أصنع في أمرهم؟ (2)
قال ابن عبد البر: وفيه إيحاب العمل بخبر الواحد العدل، وأنه حجة يلزم العمل بهما، والانقياد إليها، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قد أشكل عليه أمر المجوس، فلما حدَّثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يحتج إلى غير ذلك، وقضى به) (3).
وأخذ عثمان رضي الله عنه بخبر الفريعة بنت مالك في السكنى، بعد أن أرسل إليها وسألها (4).
وعلي رضي الله عنه كان يقول: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا؛ ينفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف؛ صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر."(5)
ولما اختلفت الأنصار في الغسل من المجامعة من غير إنزال؛ أرسلوا أبا موسى الأشعري إلى عائشة رضي الله عنها فروت لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل"(6) فرجعوا إلى قولها.
وعن علي رضي الله عنه قال: "كنت رجلًا مذاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسأله فقال: فيه الوضوء"(7).
(1) رواه البخاري (5397 - 5398).
(2)
رواه البخاري (2987).
(3)
التمهيد (2/ 116).
(4)
رواه مالك في الموطأ (2/ 591)، وأحمد (6/ 414)، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1992).
(5)
رواه ابن ماجه (1395)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1144).
(6)
رواه مسلم (349).
(7)
رواه البخاري (266) واللفظ له، ومسلم (303).