الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجلين ومنزلتهما العلمية، فنسبوا إليهما ما لا يصح عنهما وشوهوا سمعتهما وعرضوهما للنقد اللاذع والطعن المرير.
سادسًا: الكذب في النسبة إليه
.
فكثير من الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لابد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يعرف بالرأي فيعدونه من الذي له حكم المرفوع (1).
الرد على قولهم أن كعبًا ووهبًا شاركا في قتل الخليفتين
.
أولًا: الوجهة التاريخية
.
فإن الخليفة الثاني قُتل سنة 23 هـ، وسيدنا وهب قتل ظلمًا أيضًا سنة 110 هـ أو سنة 114 هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا فلا يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد، لأن عبد ألله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة سيدنا عثمان، وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر فتظلم منها إلى الخليفة فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام وحينئذ لم يكن مرسلًا من جمعية سرية.
والخليفة الثالث قُتل سنة 35 هـ، فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا، فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة، وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة، أما سيدنا كعب فقد تُوفي سنة 32 هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأمور كما هو مبين في الوجه القادم:
ثانيًا: لو نسب إليهما ذلك لشاع واشتهر
.
(1) تفسير المنار (8/ 365).
فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه، وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين لهم الذكورين ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر فيه المحدثين الموثقين فقط، وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما وورعهما وكفى بذلك توثيقًا. (1)
ثالثًا: أما استدلالهم بما جاء في تاريخ ابن جرير الطبري، عن سليمان بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة، من أن كعب الأحبار قال له: يا أمير المؤمنين أعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام فقال وما يدريك؟ قال أجده في كتاب الله عز وجل التوراة
…
الخ (2).
فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن ابن جرير وغيره من المؤرخين لم يلتزموا الصحة فيما ينقلون ويحكون، ولذا تجد في كتبهم الضعيف والموضوع. والباحث المنصف إذا نقل خبرًا من هذه الكتب ينبغي أن يمحصه سندًا ومتنًا.
الوجه الثاني: إذا نظرنا إلى سند هذه القصة ومتنها لا نشك في أنها تنادى على نفسها بالكذب والاختلاق وذلك: لسقوط سندها فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بينه جمع من الأئمة وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبوه جعفر فلا يعرف برواية أصلًا.
الوجه الثالث: ولأنها لو كانت في التوراة لما اختص بعلمها كعب الأحبار وحده، ولكن كان يشاركه العلم بها أمثال عبد الله بن سلام وعبد الله بن عمرو ممن لهم علم بالتوراة.
الوجه الرابع: ولأنها لو صحت لكان المنتظر من عمر حينئذ أن لا يكتفي بقول كعب، ولكن يجمع طائفة ممن أسلم من أهل الكتاب ولهم إحاطة بالتوراة ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر كعب وظهر للناس كذبه ولتبين لعمر أنه شريك في
(1) مجلة المنار (26/ 1/ 73).
(2)
تاريخ الطبري (3/ 264).
مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها وحينئذ يعمل عمر على الكشف عنها بشتى الوسائل وينكل بمدبريها ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي حاكم عادى يقال له مثل ذلك، فضلًا عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة وحدة الذهن وتمحيص الأخبار، ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل فكان ذلك دليلًا على اختلاقها.
د- وأيضًا فإنها لو صحت لكان معناها أن كعبًا له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه بنفسه وذلك باطل لمخالفة طباع الناس، إذ المعروف أن من اشترك في مؤامرة يبالغ في كتمانها حرصًا على نجاحها وتفاديًا من تحمل تبعتها بعد وقوعها.
وبذلك تبين لنا أن هذه القصة مفتراة بدون أدنى اشتباه، وأن رمى كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر رضي الله عنه والكذب في النقل عن التوراة اتهام باطل لا يستند إلى دليل أو برهان، ولقد كان عمر والصحابة رضي الله عنهم أعلم بحال كعب منا لأنه صحبهم وجالسهم. ولو كان هناك ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضى اتهامه.
ومن عجيب أمر هؤلاء الطاعنين أنهم يجعلون روايات المؤرخين حجة لا يأتيها الباطل بحال إذا كان لهم غرض في إثبات مضمونها، ويتشككون في روايات البخاري ومسلم إذا جاءت على غير ما يشتهون (1).
* * *
(1) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير لرمزي نعناعة (ص 189).