الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأول: نص الحديث
.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في المَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "يَا أَبا ذَرٍّ، أتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قَالَ: قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ عِنْدَ رَبِّها، فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لها، فَيُوشِكُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ فَلا يُؤذَنُ لَهَا، حَتَّى تَسْتَشْفِعَ وَتَطْلُبَ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا قِيلَ لها: اطْلُعِي مِنْ مَكَانِكِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} .
وفي لفظ آخر عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: "أتدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ". قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ تَجْرِى حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلا تَزَالُ كَذَلِكَ؛ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيثُ جِئْتِ؛ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا؛ ثُمَّ تَجْرِى؛ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلا تَزَالُ كَذَلِكَ؛ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ؛ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا؛ ثُمَّ تَجْرِى لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا؛ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ؛ فَيُقالُ لَهَا ارْتَفِعِي؛ أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ؛ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ذَاكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا" (1).
الوجه الثاني: أن هذا نوع من أنواع العبودية التي ذكرها العلماء وهي عبودية الكائنات
.
فالله سبحانه وتعالى قد خلق جميع الكائنات؛ إنسها، وجنها، وملائكتها، وحيوانها، وجمادها، ونباتها، وغيرها من الكائنات لعبادته سبحانه وتعالى وفطرها على توحيده، والاعتراف بإلوهيته، والإقرار بفقرها وحاجتها وخضوعها وصمودِها له عز وجل.
فكل هذه الكائنات تقوم بعبادة الله عز وجل، ولا يُخِلُّ بذلك إلا الإنسان المعاند الزائغ عن شرع الله سبحانه وتعالى المخالف لنظام هذا الكون المحكم البديع؛ الذي ما قام إلا على
(1) البخاري (3199)، ومسلم (159) واللفظ له.
عبودية الله، هذا وتختلف العبوديات من مخلوق إلى مخلوق قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} [النحل: 49].
قال ابن جرير: يقول الله تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابة تدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة (1).
وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه؛ الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة. وقال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18](2).
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فإنه يسجد لعظمته كل شيء؛ طوعًا وكرهًا، وسجود كل شيء مما يختص به، وقال الله تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44](3).
وقال: يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن، أي: من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره (4).
وقال السعدي: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} من حيوان ناطق، وغير ناطق، ومن أشجار، ونبات، وجامد، وحي وميت {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} بلسان الحال ولسان المقال، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: تسبيح باقي المخلوقات، التي على غير لغتكم،
(1) تفسير الطبري (7/ 594).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 593).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 45).
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 220).
بل يحيط بها علام الغيوب. وعن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي ذر حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب"؟ ! ) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش؛ فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها؛ وتستأذن فلا يؤذن لها؛ يقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: 38](1).
قال ابن تيمية: فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح بسجود الشمس إذا غربت واستئذانها، وكذلك قال أبو العالية وغيره، قال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا ويقع ساجدًا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، ومعلوم أن الشمس لا تزال في الفلك كما أخبر الله تعالى بقوله:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]، فهي لا تزال في الفلك، وهي تسجد لله وتستأذنه كل ليلة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تسجد سجودًا يناسبها، وتخضع له وتخشع كما يخضع ويخشع كل ساجد من الملائكة والجن والإنس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن، ولا آخر قد بني بنيانًا ولما يرفع سقُفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأَدْنى للقرية حين صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبِسْها علي شيئًا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه"(2).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (3)).
(1) تيسير الكريم الرحمن (4/ 283).
(2)
مسلم (1747).
(3)
البخاري (3579)، جامع الرسائل الأولى (ص 37).
وكذلك قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]، بكاء كل شيء بحسبه؟ قد يكون خشية لله؛ وقد يكون حزنا على فراق المؤمن، روى ابن أبي حاتم عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: قال عمرو يعني ابن دينار: إني ليلة أطوف بالبيت إذ سمعت حنين رجل بين الأستار والكعبة، وبكاءه وتضرعه فوقفت لأعرفه فذهب ليل وجاء ليل وهو كذلك؟ حتى كاد يسفر فانكشف الستور عنه؛ فإذا هو طاووس رحمه الله، فقال: من هذا عمرو؟ قلت: نعم أمتع الله بك، قال: متى وقفت هاهنا؟ قال قلت: منذ طويل، قال: ما أوقفك قلت: سمعت بكاءك، فقال: أعجبك بكائي؟ قلت: نعم، قال: وطلع القمر في حرف أبي قبيس، قال: ورب هذه البنية إن هذا القمر ليبكي من خشية الله، ولا ذنب له، ولا يُسأل عما عمل، ولا يُجازى به فعجبت أن بكيت من خشية الله، وأنا صاحب الذنوب، وهذا القمر يبكي من خشية الله، وقرأ ابن زيد:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18].
قال: فلم يستثن من هؤلاء أحدًا؛ حتى جاء ابن آدم استثناه فقال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، قال والذي كان هو أحق بالشكر؛ هو أكفرهم ثم قرأ {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27: 28]، قال وكذلك اختلفوا في دينهم كما اختلف الأولون، ولفظ السجود يستعمل في اللغة: لخضوع الجامدات وغيرها كالبيت المعروف:
بجيش تضل البلق في حجراته
…
ترى الأكم فيه سجدًّا للحوافر
قال ابن قتيبة: حجراته: جوانبه، يريد أن حوافر الخيل قد بلغت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت، قال ابن عطية: في قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48]، وقالت فرقة منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظلال ودورانها بالسجود
كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض على وجه الخضوع ساجد ومنه قول الشاعر:
وكلتاهما خرت وأسجد رأسها
…
كما سجدت نصرانة لم تحنف
وإذا كان كذلك الله سبحانه ذكر في الرعد قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، فعم في هذه الآية ولم يستثن وقسم السجود إلى طوع وكره وقال في الحج:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18].
وفي هذا الكثير قولان أحدهما: أنه لم يسجد فلهذا حق عليه العذاب كما تقدم عن طاووس، وهو قول الفراء وغيره.
والثاني: أنه سجد وحق عليه العذاب؛ فإنه ليس هو السجود المأمور به. قال أبو الفرج: وفي قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} قولان: أحدهما أنهم الكفار وهم يسجدون وسجودهم سجود ظلهم قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسجدون، والمعنى وكثير من الناس أبى السجود ويحق عليه العذاب لتركه السجود هذا قول الفراء.
قلت: هذا قول الأكثرين، وقد ذكر البغوي في قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، قال: قال مجاهد سجودها تحول ظلالها وقال أبو العالية ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدًا حين يغيب؛ ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، قال: وقيل سجودها بمعنى الطاعة؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله، خاشع له مسبح له، كما أخبر الله عز وجل عن السماوات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقال في وصف الحجارة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] قال: وهذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة، قلت: قد تقدم قول الطبري
وغيره بهذا القول؛ فإذا كان السجود في هذه الآية ليس عامًا وهو هناك عام؛ كان السجود المطلق هو سجود الطوع؛ فهذه المذكورات تسجد تطوعًا هي وكثير من الناس، والكثير الذي حق عليه العذاب إنما يسجد كرهًا، وحينئذ فالكثير الذي حق عليه العذاب لم يقل فيه إنه يسجد، ولا نفى عنه كل سجود، بل تخصيص من سواه بالذكر؛ يدل على أنه ليس مثله؛ وحينئذ فإذا لم يسجد طائعًا حصل فائدة التخصيص، وهو مع ذلك يسجد كارهًا فكلا القولين صحيح. وكذلك قال طائفة من المفسرين واللفظ للبغوي قالوا: وكثير حق عليه العذاب بكفرهم وتركهم السجود؛ وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله تعالى وقال في سورة النحل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 48: 50].
قال: فلفظ دابة إن لم يتناول بني آدم فالإبل تسجد طوعًا، وإن تناول بني آدم فسجودهم طوعًا وكرهًا، والذين فسروا السجود بالخضوع والانقياد، لهم في سجودها قولان، أحدهما: أنه كونها مصنوعة مخلوقة منقادة لمشيئة الله واختياره كما قالوا في تسبيحها مثل ذلك وأنه شهادتها ودلالتها على الخالق. قال أبو الفرج في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15]، الساجدون على ضربين أحدهما: من يعقل فسجوده عبادة والثاني: من لا يعقل فسجوده بيان أثر الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق هذا قول جماعة من العلماء واحتجوا بالبيت المتقدم: ترى الأكم فيه سجدا للحوافر.
قال: وأما الشمس والقمر والكواكب فألحقها جماعة بمن يعقل قال أبو العالية سجودها حقيقة ما منها غارب إلا خر ساجدًا بين يدي الله عز وجل، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، قال: ويشهد لقول أبي العالية حديث أبي ذر وذكره، قال: وأما النبات والشجر فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء: أحدها: أن يكون سجودًا لا نعلمه، وهذا إذا قلنا بردعه فيهما، والثاني: أنه تفيؤ ظلاله، والثالث: بيان الصنعة فيه، والرابع: الانقياد لما سخر له.
قلت: الثالث والرابع من نمط واحد وهو كالمتقدم وأما السجود الذي لا نعلمه فهو كما ذكره البغوي، وقال البغوي أيضًا في قوله:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] فإن قيل الحجر لا يفهم فكيف يخشى؟ قيل الله يفهمها ويلهمها فتخشى بإلهامه، قال: ومذهب أهل السنة أن لله علمًا في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره، ولها صلاة وتسبيح وخشية، كما قال عز وجل:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وقال تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} ، فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى، وذكر الحديث الصحيح عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن"(1)، وذكر حديث حنين الجذع وطرقه صحاح مشهورة، ورُوي عن السدي، عن أبي عباد بن أبي يزيد، عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجًا من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله (2)، وقال: قال مجاهد لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله، ويشهد لما قلنا قوله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
قلت: وأما تفسير سجودها وتسبيحها، بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما، ودلالتها على الصانع فقط، فالاقتصار على هذا باطل، فإن هذا وصف لازم دائم لها، لا يكون في وقت دون وقت، وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلى الله تعالى؛ وعلى هذا فالمخلوقات كلها لا تزال ساجدة مسبحة؛ وليس المراد هذا فإنه قال تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18]، وقال:{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]، وقال: {قَدْ عَلِمَ
(1) مسلم (2277).
(2)
المستدرك للحاكم (4238).
صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، فقد أخبر سبحانه وتعالى عنه؛ أنه يعلم ذلك ودلالتها على الرب يعلمه عموم الناس، وأيضًا فقد أخبر الله تعالى في القرآن من كلام الهدهد والنمل وأن سليمان علم منطق الطير؛ بما يدل على الاختصاص، وهذا في الحيوان، وأيضًا فإنه جعل الجميع يسجد، ثم قال:{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، وهذا المعنى يشترك فيه جميع المخلوقات دائمًا؛ وهو وصف لازم لكل مخلوق لا يزال مفتقرًا إلى الخالق، ولا يزال دالًا عليه، ولا يزال منقادًا لما يشاء الرب، وأيضًا فإنه قسم السجود إلى طوع وكره، وانفعالها لمشيئة الرب وقدرته، لا ينقسم إلى طوع وكره، ولا يوصف ذلك بطوع منها ولا كره؛ فإن دليل فعل الرب فيها ليس هو فعل منها البتة.
والقرآن يدل على أن السجود والتسبيح أفعال لهذه المخلوقات، وكون الرب خالقًا لها إنما هو كونها مخلوقة للرب، ليس فيه نسبة أمر إليها يبين ذلك أنه خص الظل بالسجود بالغدو والآصال والظل، متى كان، وحيث كان، مخلوق مربوب، والله تعالى جعل الظلمات والنور، والقول الذي ذكره البغوي أقرب من القول الذي ذكره أبو الفرج؛ وهو سبحانه تارة يجعلها آيات له، وتارة يجعلها ساجدة مسبحة وهذا نوع غير هذا. وعلى هذا القول الجميع واحد ليس في كونها ساجدة مسبحة، إلا كونها آية دالة وشاهدة للخالق تعالى بصفاته، لكونها مفعولة له، وهذا معنى ثابت في المخلوقات كلها لازم لها وهي آيات للرب بهذا الاعتبار، وهي شواهد ودلائل وآيات بهذا الاعتبار، لكن ذاك معنى آخر كما يفرق بين كون الإنسان مخلوقًا وبين كونه عابدًا لله؛ فهذا غير هذا، هذا يتعلق بربوبية الرب له، وهذا يتعلق بتألهه وعبادته للرب، والبيت الذي استشهدوا به وهو قوله:
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
فإنما ذكر سجود الأكم للحوافر، وذلك خضوعها وانخفاضها لها؛ فهذا خضوع جماد لجماد، ولا يلزم أن يكون سائر أنواع الخضوع مثل هذا، وإنما يشترك في نوع الخضوع وليس خضوع المخلوقات للخالق مثل هذا؛ وإن قيل هو انفعالها لمشيئته وقدرته، بل ذاك