الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتراز عن الإيمان؛ لأنه من أعمال القلوب فلا تعارض حينئذ بينة وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه أفضل الأعمال إيمان بالله. (1)
ومما يزيد ذلك وضوحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الشرط وهو الإيمان في موضع آخر، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ النَّاسِ أَفْضلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مُؤْمِن يجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي الله وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ"(2)، فذكر في هذا الحديث شرط الإيمان قبل كل عمل، ومعلوم أن الجهاد يستلزم الصلاة، وإلا لا فضيلة له.
الوجه الخامس: بيان المقصود بالحرف (ثم)
.
قال النووي: فإن قيل: قد جاء في بعض هنه الروايات: أفضلها كذا ثم كذا بحرف (ثم) وهي موضوعة للترتيب فالجواب أن (ثم) هنا للترتيب في الذكر كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد 12: 17)، ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا. .} إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (الأنعام 151: 154)، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (الأعراف: 11)، ونظائر ذلك كثيرة وأنشدوا فيه:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه
…
ثم قد ساد قبل ذلك جده (3).
الوجه السادس: فقه السؤال والجواب، وبه نعرف لماذا وقع التغاير
.
إن التغاير في هذه الأحاديث إنما وقع إتماما للفائدة، وإتحافا للسائل بالجواب الشافي، فإن من سئل عن شيء ليفتى فيه وجب عليه أن يراعى حالة السائل؛ ليعطيه الجواب الذي يصلح
(1) فتح الباري 2/ 13.
(2)
البخاري (2786).
(3)
شرح مسلم للنووي 1/ 355.
له، ويتناسب معه فإن (المستفتى عليل، والمفتى طبيب، فإن لم يكن ماهرا بطبه وإلا قتله). (1)
(وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتى عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب. (2)
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا، وكلها تدل على فصاحته صلى الله عليه وسلم، وبلاغته، ومنها على سبيل المثال: عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن طهارة ماء البحر فقال صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"(3).
فمن فوائد هذا الحديث: أن المفتى إذا سئل عن شيء وعلم أن بالسائل حاجة إلى أمر آخر متعلق بالمسألة، يستحب له أن يذكره له ويعلمه إياه، لأنه -أي السائل- سأل عن ماء البحر فأجيب بمائه وحكم ميتته؛ لأنهم يحتاجون إلى الطعام كالماء، وإذا جهلوا كونه مطهرا فجهالتهم حل ميتته أولى" (4).
وهذا يدل على سعة الفهم، وبعد النظر، وإدراكه صلى الله عليه وسلم لما يحتاج إليه السائل، وليكون ذلك تشريعا للأمة على مر العصور.
كما أن كثرة تكرار هذا السؤال الوارد في الأحاديث -وهو السؤال عن أفضل الأعمال- يبين حرص الصحابة الكرام على معرفة أفضل الأعمال، ليتقربوا بها إلى الله-عز وجل، ولقد كان الصحابة رضي الله عنه-أصحاب همم عالية تجعلهم جديرين بأن يقوموا بما يدلهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الفاضلة.
(1) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 394).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 20).
(3)
أخرجه أبو داود (1/ 83) والترمذي (1/ 69) وغيرهم، وصححه الألباني.
(4)
البدر المنير (1/ 379).
وكذلك من فضل الصحابة الكرام على هذه الأمة، أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذه الأشياء التي هي من الأهمية بمكان، فيكون ذلك سببا في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بل نستطيع أن نقول أن هذا تعليم من الصحابة الكرام لهذه الأمة، فإن السؤال الحسن يسمى علمًا قال ابن المنير: في قوله صلى الله عليه وسلم "يعلمكم دينكم"(1)، دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علمًا وتعليمًا؛ لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلمًا، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم. (2)
* * *
(1) وذلك في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم (البخاري (50)، مسلم (8).
(2)
فتح الباري 1/ 152.