الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَل بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ". (1)
فلو رأى الصحابة رضي الله عنهم أو سمعوا منه شيئًا مما أجازه عليه بعض أهل العلم من قربه الصغائر - وحاشاه من ذلك - لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوه من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته.
ولكنهم رضي الله عنهم لم ينقلوا عنه شيئًا من ذلك - فيما علمنا - ولو رأوا منه شيئًا من ذلك أو علموه عنه لنقلوه إلينا، وعُلم عنهم لتوافر دواعي النقل عنه.
فالقول بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها، وجهرها، عمدها وسهوها هوما ندين لله تعالى به؛ فقد كانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وأحواله كلها تشريعًا تقتضى المتابعة والاقتداء، إلا ما ورد الدليل فيها على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم أوما ورد الدليل فيه أنه ليس من جنس ما يشرع لهم التأسي به فيه إلا عند وجود السبب. (2)
ولا يكون لأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم ذلك الوصف التشريعي إلا بالقول بوجوب العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصغائر خلافًا لمن أجازها من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. (3) تمسكًا منهم بظواهر من القرآن الكريم، وبعض الأحاديث الصحاح التي ذكر فيها ما يشعر بوقوع الخطيئة من بعضهم، وسيأتي الجواب عن ذلك تفصيلًا ويكفي في الرد عليهم هنا إجمالًا ما سبق من شهادة القرآن الكريم والسيرة العطرة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر.
سابعًا: بالنسبة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا
.
فقد قسمها القاضي عياض إلى ثلاثة أنواع:
(1) البخاري (5550)، مسلم (1679).
(2)
مثل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَلمَّا قَامَ في مُصَلَّاهُ ذَكَرَ أَنهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَنَا: "مَكَانَكُمْ". ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ" البخاري (275)، ومسلم (1106) فالصحابة رضي الله عنهم في هذا الموقف لم ينصرف واحد منهم يفعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لعلمهم أن هذا ليس من جنس ما يشرع لهم التأسي به فيه، إلا عند وجوب السبب.
(3)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 158، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/ 245، البحر المحيط 4/ 171، جامع أحكام القرآن للقرطبي 1/ 321، وقد تقدم قولهم عند الحديث عن الأنبياء عمومًا.
فقال: فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل.
أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع.
وذكر حديث رافع بن خديج قَالَ: قَدِمَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم المُدِينَةَ وَهُمْ يَأبْرونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ: يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ:"مَا تَصْنَعُونَ؟ . قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: "لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا". فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَر إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّما أنا بَشَرٌ". (1)
وفي حديث عائشة وأنس قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". (2)
وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.
وقد قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه، فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر.
وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ
(1) مسلم (2362).
(2)
مسلم (2363).
تَخْتَصِمُونَ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحْنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". (1).
ويجري أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه ومعرفة العفاص والوكاء مع مقتضى حكمة الله في ذلك فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ولكن لما أمر الله أمته باتباعه والاقتداء به في أفعاله وأحواله وقضاياه وسيره وكان هذا لو كان مما يختص بعلمه ويؤثره الله به لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك ولا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية بحكمه هو إذا في ذلك المكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم وهذا ما لا تعلمه الأمة فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو وغيره من البشر ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه وتنزيل أحكامه ويأتون ما أتوا من ذلك على علم ويقين من سنته، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول وأرفع الاحتمال اللفظ وتأويل المتأول وكان حكمه على الظاهر أجلى في البيان وأوضح في وجوه الأحكام وأكثر فائدة لموجبات التشاجر والخصام وليقتدي بذلك كله حكام أمته ويستوثق بما يؤثر عنه وينضبط قانون شريعته وطي ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه بما شاء ويستأثر بما شاء ولا يقدح هذا في نبوته ولا يفصم عروة من عصمته.
وأما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال، وعلى أي وجه، من عمد أو سهو، أو صحة أو مرض، أو رضا أو غضب، وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم.
(1) البخاري (6967)، مسلم (1713) من حديث أم سلمة.
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو حذره، إلى غير ذلك. هذا كله فيما بابه الخبر.
فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر والنهى في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضًا ولا يجوز عليه أن يأمر أحدًا بشيء أو ينهى أحدًا بشيء وهو يبطن خلافه.
وقال القاضي من قبل: وأما ما ليس سبيله سبيل البلاغ من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحى بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه فالذي يجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره لا عمدًا ولا سهوًا ولا غلطًا وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفى حال سخطه وجده ومزحه وصحته ومرضه ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله وللثقة بجميع أخباره في أي باب كانت وعن أي شيء وقعت وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد في شيء منها ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا.
وأيضًا فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها ولم يرد في شيء منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط في قول قاله أو اعترافه بوهم في شيء أخبر به ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته عليه السلام رجوعه صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار في تلقيح النحل وكان ذلك رأيا لا خبرًا.
وأيضًا فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان، استريب بخبره واتهم في حديثه ولم يقع قوله في النفوس موقعا ولهذا ترك المحدثون والعلماء الحديث عمن عرف بالوهم والغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط مع ثقته وأيضا فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية والإكثار منه كبيرة بإجماع مسقط للمروءة وكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ويستشنع مما يخل بصاحبها ويزري بقائلها لا حقة بذلك وأما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من
الصغائر فهل تجري على حكمها في الخلاف فيها مختلف فيه والصواب تنزيه النبوة عن قليله وكثيره وسهوه وعمده إذ عمدة النبوة البلاغ والإعلام والتبيين وتصديق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك ومشكك فيه مناقض للمعجزة فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه لا بقصد ولا بغير قصد ولا نتسامح مع من تسامح في تجوز ذلك عليهم حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ، نعم وبأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ولا الاتسام به في أمورهم وأحوال دنياهم لأن ذلك كان يزري ويريب بهم وينفر القلوب عن تصديقهم بعد وانظر أحوال عصر النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها من الأمم وسؤالهم عن حاله في صدق لسانه وما عرفوا به من ذلك واعترفوا به مما عرف واتفق النقل على عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم منه قبل وبعد. (1)
وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الدنيوية كما في مسألة الغسل من الجنابة بعد ما أقيمت الصلاة. فحكمه فيها من ترقى المعاصي والمكروهات ما قدمناه ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه وكله غير قادح في النبوة بل إن هذا فيها على الندور إذ عامة أفعاله على السداد والصواب بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات والقرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته وما يقيم رمق جسمه وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ويقيم شريعته ويسوس أمته، وما كان فيما بينه وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه أو بر يوسعه أو كلام حسن يقوله أو يسمعه أو تألف شارد أو قهر معاند، أو مداراة حاسد وكل هذا لاحق بصالح أعماله منتظم في زاكي وظائف عباداته وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ويعد للأمور أشباهها فيركب - في تصرفه لما قرب - الحمار، وفى أسفاره الراحلة، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات، ويركب الخيل ويعدها ليوم الفزع وإجابة الصارخ.
وكذلك في لباسه وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ومصالح أمته وكذلك يفعل الفعل من أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها وإن كان قد يرى غيره خيرًا
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 151 - 153.
منه كما يترك الفعل لهذا وقد يرى فعله خيرًا منه وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه كخروجه من المدينة لأحد وكان مذهبه التحصن بها وتركه قتل المنافقين وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ورعاية للمؤمنين من قرابتهم وكراهة لأن يقول الناس: "أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ". (1)
كما جاء في الحديث وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش وتعظيمهم لتغيرها وحذرا من نفار قلوبهم لذلك، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله، فقال لعائشة في الحديث الصحيح:"أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ . قَالَ: "لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ". (2)
ويفعل الفعل ثم يتركه لكون، ويبسط وجهه للكافر والعدو رجاء استئلافه، ويصبر للجاهل ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ودين ربه، ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته، ويتسمت في ملاءته حتى لا يبدو منه شيء من أطرافه وحتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ويتحدث مع جلسائه بحدث أولهم، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويضحك مما يضحكون منه، وقد وسع الناس بشره وعدله لا يستفزه الغضب ولا يقصر عن الحق ولا يبطن على جلسائه. (3)
* * *
(1) البخاري (3518)، مسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله.
(2)
البخاري (1538)، مسلم (1333).
(3)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 196 - 212 بتصرف.