الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوع أبلغ من هذا؛ فلا يجب أن يكون سجودها بغير خضوع منها وطاعة؛ ولكن هذا البيت يقتضي أنه لا يجب أن يكون سجود كل شيء وضع رأسه بالأرض، وهذا حق بل هو خضوع للرب يناسب حاله؛ وقد قيل لسهل بن عبد الله أيسجد القلب؟ قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدًا، وأهل الجنة في الجنة قد أُلهموا التسبيح كما أُلهموا النفس في الدنيا، وكما يُلهم أهل الدنيا النفس وهم خاضعون للرب، مطيعون له، وليس هناك سجود بوضع رأس في الأرض، فهذا أمر به في الدنيا لحاجة النفس إليه في خضوعها لله تعالى؛ فلا تكون خاضعة إلا به بخلاف حالها في الجنة؛ فإنها قد زكت وصلحت (1).
الوجه الثالث: قدرة الله عز وجل فوق كل شيء
.
1 -
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عظمته وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء بأسرها، جماداتها، وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة؛ فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد بظله لله تعالى (2).
لاحظ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ .. } أي أنهم يسجدون سجودًا حقيقيًا نحن نراه، ويستشهدنا الخالق العظيم عليه .. كيف؟ الجواب: إنه سجودٌ نؤمن به، ولا يعلم حقيقته
(1) رسالة في قنوت الأشياء لابن تيمية (39 - 45).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 572).
إلا الله الذي أعلَمَنا به؛ فليَسع الحديثَ ودلالتَه ما يسع هذه الآيةَ الجليلة. ومَن لم يستطع قبولَ الحديثِ؛ فليفسّر لنا ماهية سجود الشمس والشجر والجبال الوارد في الآية.
ولن يسعفه في الحالتين سوى التسليمُ والإيمان، فقد دل القرآن على مثل ما دل عليه حديث أبي ذر من سجود الشمس؛ وذلك في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} كما دلت الآية على أن سجود هذه المخلوقات غير دلالتها بلسان الحال وصورة الحال على ربوبيته تعالى؛ إذ لو كان سجودها هو دلالتها على الخالق سبحانه، أو تسخيرها وانقيادها للقدرة؛ لما خص ذلك بكثير من الناس ونفاه عن كثير - وهم الذين حق عليهم العذاب - فإن الدلالة على الخالق سبحانه والانقياد لقدرته حاصلتان في جميع الناس وجميع المخلوقات؛ فالواجب إثبات سجود الشمس وما ذُكر معها في الآية، وأنه سجود حقيقي يناسب هذه المخلوقات، ولا يعلم العباد كيفيته؛ فإنكاره رد لما أخبر الله به ورسوله، وصرفه عن ظاهره لا موجب له، ولا دليل عليه، فإن هذه المخلوقات لها شعور بالعبودية لله تعالى، تسبح وتسجد وتؤوب وتخشى كما قال تعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (1).
قال القاضي عياض: وهو على ظاهره عند أهل الفقه والحديث والمتكلمين من أهل السنة، خلافًا لمن تأوله من المبتدعة والباطنية، وهو أحد أشراط الساعة العظام المنتظرة. (2)
وَذَكَرَ أبُو سُلَيْمانَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أَنَّ
(1) تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح البارى (1/ 29).
(2)
إكمال المعلم (3/ 700).
أَصْحَابَ المعَانِي من أَهْل التَّفْسِيرِ قَالُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي لمُسْتَقَرٍّ لَهَا، أَيْ: لأَجَلٍ لها، وَقَدَرٍ قُدِّرَ لَهَا، يَعْنِي انْقِطَاعَ مُدَّةِ بَقَاءِ الْعَالَمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُسْتَقَرُّهَا غَايَةٌ إِلَيْهِ فِي صُعُودِهَا وَارْتفَاعِهَا لأَطْوَلِ يَوْمٍ فِي أيَّامِ الصَّيْفِ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النزولِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الشِّتَاءِ، لأَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ؛ وَأَمَّا قَولهُ:"مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ حَيْثِ لا نُدْرِكُهُ وَلا نُشَاهِدُهُ"، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْبٍ فَلا نُكَذِّبُ بِهِ، وَلا نُكَيِّفُهُ؛ لأَنَّ عِلْمَنَا لا يُحِيطُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى: أَن عَلِمَ مَا سَألتَ عَنْهُ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فِي كِتَابٍ، كُتِبَ فِيهِ مَبَادِئُ أُمُورِ الْعَالَمِ وَنِهَايَاتها، وَالْوَقْتُ الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ مُدَّتها، فَيَنْقَطِعُ دَوَرَانُ الشَّمْسِ، وَتَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ فِعْلُهَا، وَهُوَ اللَّوْحُ المُحْفُوظُ، الَّذِي بُيِّنَ فِيهِ أَحْوَالُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ وَآجَالُهُمْ وَمَآلُ أُمُورِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الحدِيث الأَوَّل: إِخْبَارٌ عَنْ سجُودِ الشَّمْسِ تَحْتَ الْعَرْشِ؛ فَلا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَاذَاتِها الْعَرْشَ فِي مَسِيرِهَا، وَالخَبَرُ عَنْ سُجُودِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ للهِ عز وجل قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ فِي سُجُودِهَا لِرَبِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ مَا يَعُوقُهَا عَنِ الدَّأْبِ فِي سَيْرِهَا، وَالتَّصَرُّفِ لمَا سُخًّرَتْ لَهُ قَالَ: فَأَمَّا قَوْلُ الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لما جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ؛ لأَنَّ المُذْكُورَ فِي الآيَةِ إِنَّمَا هُوَ نِهَايَةُ مُدْرِكِ الْبَصَرِ إِيَّاهَا حَالَ الْغُرُوبِ، وَمَصِيرُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ لِلسُّجُودِ إِنَّما هُوَ بَعْدَ غُرُوبِهَا، فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَبَرِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ:{تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ فتغْمُرُهَا، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي بَلَغَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي مَسِيرِه؛ حَتَّى لَمْ يَجِدْ وَرَاءَهَا مَسْلَكًا، فَوَجَدَ الشَّمْسَ تَتَدَلَّى عِنْدَ غُرُوبِهَا فَوْقَ هَذِهِ الْعَيْنِ، أَوْ عَلَى سَمْتِ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَتَرَاءَى غُرُوبُ الشَّمْسِ لِمَنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ لا يَرَى السَّاحِلَ، يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغِيبُ فِي الْبَحْرِ، وَإِنْ