الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: التوفيق بين الروايات
.
قال النووي: قال القاضي: قيل: هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك، فأجاب كلَّ واحد منهم عن سؤاله؛ هذا كلام القاضي. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، ويحتمل أيضًا أن يقال: هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك، وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كل الأحاديث معمول، بها ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين. (1)
وقال المناوي: لا تعارض، إما لأنها أخبار جرت على وفق سؤال السائلين، أو لأن أقل الأعداد متأخر ومن عادة الله الزيادة في فضله الموعود، وأما قول النووي: مفهوم العدد غير حجة فرُدَّ بأن ذكر العدد حينئذ يصير عبثًا. (2)
وقال المباركفوري: وقال التوربشتي: لا تضاد بين هذه الأحاديث؛ لأن السبيل في أمثال هذا المقام أن يكون الأقل من العددين متأخرًا عن الأكثر، لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى لم يكن من سنته النقصان من الفضل الموعود بعد ذلك بل يزيد تفضلًا، فيدل على زيادة فضل الله وكرمه على عباده. (3)
وقال الخطيب التبريزي: عقب نقله لكلام التوربشتي السابق: فجعلنا حديث ابن عباس رضي الله عنه في أربعين متأخرًا عن حديث عائشة رضي الله عنها في المائة للمعنى الذي ذكرنا. (4)
وقال الطحاوي: فقال قَائِلٌ: من أَيْنَ جاء هذا الااخْتِلَافُ في هذه الرِّوَايَاتِ؟
فَكَانَ جَوَابُنَا عن ذلك بِتَوْفِيقِ الله تَعَالَى: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الله جَادَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بِالْغُفْرَانِ لمِنْ صلى عليه مِائَةٌ منهم بِشَفَاعَتِهِمْ له، ثُمَّ جَادَ له بِالْغُفْرَانِ بِشَفَاعَةِ أَرْبَعِينَ منهم؛
(1) شرح مسلم 7/ 17.
(2)
فيض القدير 5/ 480.
(3)
تحفة الأحوذي 4/ 98.
(4)
مشكاة المصابيح 5/ 791.
فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه بِذَلِكَ هو آخِرُ ما كان منه عز وجل مِمَّا جَادَ بِسَبَبِهِ بِالْغُفْرَانِ لِلْمُصَلَّى عليه من المُؤْمِنِينَ بِشَفَاعَتِهِمْ، وكان خَبَرُ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مُتَقَدِّمَيْنِ لِذَلِكَ. فقال: وَلمَ حَمَلْتَ ذلك على ما ذَكَرْت ولم تَحْمِلْهُ على أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه هُمَا المُتأَخِّرَانِ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه هو المُتَقَدِّمُ؟ فَكَانَ جَوَابُنَا له عن ذلك بِتَوْفِيقِ الله وَعَوْنِهِ: أَنَّ الله تَعَالَى ليس من صِفَتِهِ أَنْ يَجُودَ بِغُفْرَانٍ بِمَعْنًى ثُمَّ يَرْجِعَ عن الْغُفْرَانِ بِذَلِكَ الْمعْنَى، وقد يَجُوزُ أَنْ يجودَ بِالْغُفْرَانِ بِمَعْنًى، ثُمَّ يَجُودَ بِالْغُفْرَانِ بِأَقَلَّ من ذلك المعْنَى وَبِأَيْسَرِهِ على خَلْقِهِ الَّذِينَ جَادَ بِذَلِكَ عليهم، فَبَانَ بَما ذَكَرْنَا الْوَجْهُ الذي جاء منه اخْتِلَافُ الْعَدَدَيْنِ في الآثَارِ التي رَوينَاهَا، وَالله نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ (1).
ومعنى ذلك: أنه ليس هناك تناقض بين الأحاديث؛ فإن العدد جاز أن يكون أولًا مائة، ثم مَنَّ الله تعالى على الأمة بفضله فجعله أربعين، وجائز أن يكون عدد الصفوف الثلاثة أربعين، وجائز أن يقل عن هذا العدد، وعندئذ تتضافر الروايات ولا تتنافر، والله أعلم.
(1) شرح مشكل الآثار 1/ 247.