الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَلاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. (1)
3 - الاستدلال بالمعقول:
لقد أورد العلماء مئات الوقائع؛ ذهب فيها الصحابة فمن بعدهم من علماء التابعين ومن سار على هديهم من أهل العلم، المرضي عنهم، الموثوق بهم، إلى أن خبر الآحاد حجة يجب المصير إليها، وقبلوا رواية العدل الثقة فيما يروون، وقد قبل أبو بكر رضي الله عنه خبر عائشة في أن النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين، وقبل عمر رضي الله عنه خبر عمرو بن حزم في أن دية الأصابع سواء، وقبل خبر الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها. (2)
قال ابن حجر: وقد شاع فاشيًا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول (3).
وقال النووي: وَلَمْ تَزَلْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدُونَ وَسَائِر الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَفِ عَلَى اِمْتِثَال خَبَر الْوَاحِد إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِسُنَّةٍ، وَقَضَائِهِمْ بِهِ، وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْقَضَاء وَالْفُتْيَا، وَنَقْضِهِمْ بِهِ مَا حَكَمُوا بِهِ خِلَافه، وَطَلَبِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ عَدَمِ الْحُجَّة مِمَّنْ هُوَ عِنْده وَاحْتِجَاجِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَانْقِيَادِ المُخَالِفِ لِذَلِكَ. (4)
وبعد بيان هذه الأدلة يتضح لنا بجلاء؛ أن العمل بخبر الآحاد ثابت بنص الكتاب والسنة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافًا لمن رده؛ وقد فُصِّل الرد عليهم ودحض شبههم في محله فلتراجع (5).
ثالثا: قولهم: إن الذباب ضار كما أثبت العلم ذلك؛ كيف يوضع في الإناء
؟
(1) البخاري (7251).
(2)
فتح الباري (13/ 248).
(3)
فتح الباري (13/ 247).
(4)
شرح النووي (1/ 132).
(5)
انظر: شبهة (خبر الآحاد) في الموسوعة.
وهذه شبهة مركبة، أحدها: إثبات ضرر الذباب أو نجاسته والثاني: أن الشرب من الإناء الذي يوضع فيه الذباب سيؤدي إلى الضرر حتمًا.
والجواب عن القسم الأول: وهو نجاسة الذباب فليس بصحيح، لأن أهل العلم قد ذهبوا إلى أن ما لا نفس له سائلة ليس بنجس، لذلك قال الحسن:(إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه). (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (في الرجل يدخل حلقه الذباب قال لا يفطر). (2)
وعن إبراهيم: (أنه سئل عن الذباب يقع في الماء فيموت فيه قال: لا بأس به). (3)
وأما القسم الثاني: وهو الكلام حول إثبات الشفاء والضرر في جناحي الذباب، وكيفية وجودهما معًا في نفس الذبابة، فقد تكلم عن هذا الأمر أهل العلم، وأهل الطب قديمًا وحديثًا فمما ذكره العلماء:
1 -
قال ابن عبد البر: ورُوي هذا الحديث من وجوه كثيرة عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهم كلها ثابتة، ومعلوم أن الذباب إذا غمس في الطعام الحار أو البارد؛ أن الأغلب عليه مع ضعف خلقه الوت فلو كان موته في الماء والطعام يفسده، لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمسه فيه! ! وإذا لم ينجس الطعام بموته فليس بنجس على حال البتة. وقد علم أن الذباب يعيش من الدم ويتناول من الأقذار ما تتناول القملة، وفيه من الدم مثل ما في القملة أو أكثر؛ وقد حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تقدم ذِكْرِنَا له. وهذا ما لم يكن فيه دم؛ لأن الحديث إنما يدل على أن النجس من الحيوان؛ ما له دم سائل. وكذلك قال إبراهيم ما ليس له نفس سائلة فليس بنجس يعني بالنفس الدم. (4)
(1) رواه البخاري معلقًا تحت الحديث (1830)، ووصله ابن أبي شيبة 2/ 348.
(2)
ابن أبي شيبة 2/ 348.
(3)
أخرجه عبد الرزاق 1/ 89، وابن أبي شيبة 1/ 61.
(4)
التمهيد (1/ 337: 338).
2 -
قال الإمام البدر والعيني: ولم يقع تعيين الجناح الذي فيه الشفاء، وذكر عن بعض العلماء: أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر؛ فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، قوله:"داء" المراد به السم الذي فيه، ويوضحه حديث أبي سعيد، فإن فيه أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء، ولا يحتاج فيه إلى التخريج الذي تكلفه بعض الشراح، فقال: إن في اللفظ مجازًا، وهو كون الداء في أحد الجناحين، فهو إما من مجاز الحذف والتقدير: فإن في أحد جناحيه سبب داء، وإما مبالغة، بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببًا له، وقال الخطابي: هذا مما ينكره من لم يشرح الله قلبه بنور المعرفة، ولم يتعجب من النحلة، جمع الله فيها الشفاء والسم معًا؛ فتعسل من أعلاه وتسم من أسفلها بحمتها، والحية سمها قاتل ولحمها مما يستشفى به من الترياق الأكبر من سمها، فريقها داء ولحمها دواء، ولا حاجة لنا مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الصدوق إلى النظائر، وأقوال أهل الطب الذين ما وصلوا إلى علمهم إلا بالتجربة، والتجربة خطر، والله على كل شيء قدير، وإليه التوكل والمصير. (1)
3 -
قال ابن حجر: وقال أبو محمد المالقي: ذباب الناس يتولد من الزبل، وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكًا شديدًا أبرأته، وكذا داء الثعلب، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع، واستدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه؛ ووجه الاستدلال: كما رواه البيهقي عن الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه، لأن ذلك إفساد، قال الخطابي: تكلم على هذا الحديث مَنْ لا خلاق له، فقال: كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الشفاء؟ وما ألجأه إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل؛ فإن كثيرًا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة؛ وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوي الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها لأوان حاجتها وأن تكسر الحبة نصفين لئلا
(1) عمدة القاري (21/ 293).
تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحًا وتؤخر آخر. (1)
وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب؛ فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر، وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له؛ فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه؛ فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء، فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى (2)، واستدل بقوله "ثم لينزعه" على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي، والقول الآخر، كقول أبي حنيفة أنها لا تنجس والله أعلم. (3)
4 -
قال ابن قتيبة:
ونقول: إن من حمل أمر الدين على ما شاهد فجعل البهيمة لا تقول، والطائر لا يسبح، والبقعة من بقاع الأرض لا تشكو إلى أختها، والذباب لا يعلم موضع السم، وموضع الشفاء؛ واعترض على ما جاء في الحديث مما لا يفهمه، فقال: كيف يكون قيراط مثل أحد؟ وكيف يأكل الشيطان بشماله ويشرب بشماله؟ وأي شمال له؟ وكيف لقي آدم موسى صلى الله عليهما؛ حتى تنازعا في القدر وبينهما أحقاب؟ وأين تنازعا؟ فإنه منسلخ من الإسلام معطل غير أنه يستعد بمثل هذا وشبهه من القول، واللغو والجدال ودفع الأخبار والآثار مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما درج عليه الخيار من صحابته والتابعون، ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كمن كذب به كله، ولو أراد أن ينتقل عن الإسلام إلى دين لا يؤمن فيه بهذا وأشباهه، لم يجد منتقلًا، لأن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والوثنية يؤمنون بمثل ذلك، ويجدونه مكتوبًا عندهم، وما علمت أحدًا ينكر هذا إلا قومًا من الدهرية، وقد اتبعهم على ذلك قوم من أهل الكلام والجهمية.
(1) معالم السنن للخطابي (4/ 239).
(2)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 1021).
(3)
فتح الباري (10/ 250).
وبعد فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء؛ إذا نحن تركنا طريق الديانة ورجعنا إلى الفلسفة، وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية؟ فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها، إذا عمل منه الترياق الأكبر، ونافع من لدغ العقارب، وعض الكلاب، والحمى الربع، والفالج، واللقوة، والارتعاش، والصرع، وكذلك قالوا في العقرب: إنها إذا شق بطنها ثم شدت على موضع اللسعة؛ نفعت وإذا أحرقت فصارت رمادًا ثم سقي منها من به الحصاة نفعته، وربما لسعت المفلوج فأفاق، وتلقى في الدهن حينًا فيكون ذلك الدهن مفرقًا للأورام الغليظة، والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ثم اكتحل به؛ زاد ذلك في نور البصر، وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون، وحكوا عن صاحب المنطق؛ أن قومًا من الأمم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون، وقالوا في الذباب: إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع، وقالوا: من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا هذا يقتله وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء أو سم. (1)
وقال ابن القيم: الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي. فأما الفقهي: فهو دليل ظاهر الدلالة جدًّا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه؛ وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السلف مخالف في ذلك، ووجه الاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله؛ وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطعام حارًا، فلو كان ينجسه لكان أمرًا بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة، والزنبور، والعنكبوت، وأشباه ذلك؛ إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودًا فيما لا دم له سائل؛ انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
ثم قال: من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة؛ إذا كان هذا ثابتًا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن
(1) تأويل مختلف الحديث 1/ 231.