الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنَقَلَ إمَامُ الحرَمَيْنِ والكيا عن الْأَكْثَرِينَ الجوَازَ عَقْلًا. وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب (1). وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالأَشْعَرِيَّةِ، وَالمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (2).
وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة مِن متأخِّري الأصوليِّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلًا لم يَقع فعلًا، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنَّة مِن ذلك أن ما فعلوه بتأويل، أو نسيانًا، أو سهوًا، أو نحو ذلك (3).
وهو اختيار الزركشي، حيث قا ل: وَالصَّحِيحُ صِحَّةُ وُقُوعِهَا منهم وَتُتَدَارَكُ بِالتَّوْبَة (4).
من قال لا تقع.
فَمَنْ نَفَاهَا كَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ من حَيْثُ النَّظَرُ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الْآمِرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُ عليهم. وَنَقَلَ إمَامُ الحرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عن الْأَكْثَرِينَ عَدَمَ الْوُقُوعِ قال: وَأَوَّلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَحَمَلُوهَا على ما قبل النُّبُوَّةِ وَعَلَى تَرْكِ الأَوْلَى (5).
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى .... وَقَالَ: يَجُوزُ الْهَمُّ لا الْفِعْلُ، وهو اختيار ابن النجار (6).
2 - من قال لا تقع منهم الصغائر (خسيسة أو غير خسيسة)
.
قال القرطبي: وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرًا مطلقًا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة، والإباحة، أو الحظر، أو المعصية، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين. قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني:
(1) إرشاد الفحول صـ 34، البحر المحيط 4/ 170.
(2)
شرح الكوكب المنير 2/ 173.
(3)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 4/ 585.
(4)
البحر المحيط 4/ 170.
(5)
البحر المحيط 4/ 170، إرشاد الفحول صـ 34.
(6)
شرح الكوكب المنير 2/ 174.
واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم، وصار بعضهم إلى تجويزها، ولا أصل لهذه المقالة (1).
قال ابن حزم: وذهبت جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلًا معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك، والباقلاني. قال أبو محمد: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به ولا يحل لأحد أن يدين بسواه (2).
والأدلة على ذلك.
قال الرازي: ويدل على وجوب العصمة خمسة عشر وجهًا.
الحجة الأولى: لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلًا والعقاب آجلًا أشد من حال عصاة الأمة، وهذا باطل، فصدور الذنمب أيضًا باطل وبيان الملازمة: أن أعظم نعم الله على العباد هي نعمة الرسالة والنبوة وكل من كانت نعم الله تعالى عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أفحش، وصريح العقل يدل عليه ثم يؤكده النقل من ثلاثة وجوه:
الأول: قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب: 32).
وقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} (الأحزاب: 30).
الثاني: أن المحصن يرجم وغيره يجلد.
الثالث: أن العبد يُحد نصف حد الحر.
الحجة الثانية: لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (الحجرات: 6).
(1) تفسير القرطبي 1/ 320.
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/ 245. وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 159، الفرق بين الفرق للبغدادي 1/ 210، عصمة الأنبياء للرازي صـ 27، الخصائص الكبرى للسيوطي 2/ 449.
فقد أمر بالتثبت والتوقف في قبول شهادة الفاسق، إلا أن هذا باطل فإن من لم تقبل شهادته في حال الدنيا فكيف تقبل شهادته في الأديان الباقية إلى يوم القيامة.
الحجة الثالثة: لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن زجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57] فكان صدور الذنب عنهم ممتنعًا.
الحجة الرابعة: لو صدر الفسق عن محمد صلى الله عليه وسلم لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز، أو لا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضًا باطل، لقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31).
ولقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي} (الأنعام: 153)، ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين كان صدور الفسق عنه محالًا.
الحجة الخامسة: لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم السلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله بعذاب جهنم؟ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
ولكانوا ملعونين؛ لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18).
وبإجماع الأمة هذا باطل فكان صدور المعصية عنهم باطلًا.
الحجة السادسة: أنهم كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} (الصف: 2 - 3).
وتحت قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 44). ومعلوم أن هذا في غاية القبح.
الحجة السبعة: قال الله تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء: 90).
فدخل تحت لفظ {الْخَيْرَاتِ} فعل كل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي.
الحجة الثامنة: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 47].
وهو أن اللفظين أعنى قوله تعالى: {الْمُصْطَفَيْنَ} وقوله: {الْأَخْيَارِ} يتناولان جملة الأفعال والتروك، بدليل جواز الاستثناء، يقال: فلان من المصطفين الأخيار إلا في كذا، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور، وهذا ينافي صدور الذنب عنهم.
الحجة التاسعة: قوله تعالى حكاية عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (ص: 83).
استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله، ثم إنه تعالى شهد على إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم الصلاة والسلام- أنهم من المخلصين، حيث قال:{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} (ص: 46).
وقال في حق يوسف صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24)، فثبت أن إغواء إبليس لم يصل إليهم، وذلك يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم.
الحجة العاشرة: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال: إنهم الأنبياء أو غيرهم، فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم، لقو له تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13).
وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع، فوجب القطع بأن أولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل من أذنب فقد اتبع إبليس، فدل هذا على أن الأنبياء صلوات الله عليهم ما أذنبوا.
الحجة الحادية عشرة: أنه تعالى قسم المكلفين إلى قسمين:
حزب الشيطان كما قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المجادلة: 19).
وحزب الله كما قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الجادلة: 22).
ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريد الشيطان ويأمره به فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لصدق عليهم أنهم حزب الشيطان.
الحجة الثانية عشر: إن العلماء -رحمهم الله تعالى- بينوا أن الأنبياء أفضل من الملائكة وثابت بالدلالة على أن الملائكة ما أقدموا على شيء من الذنوب، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لامتنع أن يكونوا زائدين في الفضل على الملائكة لقوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].
الحجة الثالثة عشر: قال الله تعالى في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (البقرة: 124).
والإمام هو الذي يُقتدى به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم، لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبًا وإنه باطل.
الحجة الرابعة عشر: قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124). فكل من أقدم على الذنب كان ظالمًا لنفسه لقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر: 32).
إذا عرفت هذا فنقول: ذلك العهد الذي حكم الله تعالى بأنه لا يصل إلى الظالمين، إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان الأول فهو المقصود، وإن كان الثاني