الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - شبهة: حول لطم موسى عليه السلام ملك الموت
.
نص الشبهة:
لطم موسى ملك الموت، فهل هذا يليق بنبي من أنبياء الله؟
الرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: ذكر الأقوال في معني الحديث
.
الوجه الثاني: هل عصى ملك الموت ربه عز وجل؟
الوجه الثالث: هل موسى عليه السلام يكره الموت؟
الوجه الرابع: الأنبياء عندنا معصومون خلاف ما تعتقدونه.
الوجه الخامس: الرد من الكتاب المقدس.
وإليك التفصيل،
الوجه الأول: ذكر الأقوال في معنى الحديث.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ المْوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ، صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَه، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّه، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الموْتَ، قَالَ: فَرَدَّ الله إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الموْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ الله أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ (1).
اختلف أهل العلم في هذا الحديث على عدة أقوال:
القول الأول: قاله ابن حبان في صحيحه حيث قال: كان مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيورًا فرأى في داره رجلا لم يعرفه فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها لا الصورة التي خلقه الله عليها
…
ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه للأخبار الجمة الواردة فيه
(1) البخاري (1274)، ومسلم (2372).
كان جائزًا اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه أمره ثانيًا بأمر آخر؛ أمر اختبار وابتلاء كما ذكرنا قبل إذ قال الله له: قل له: إن شئت فضع يدك على متن ثور فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة فلما علم موسى كليم الله أنه ملك الموت وأنه جاءه بالرسالة من عند الله طابت نفسه بالموت ولم يستمهل وقال: فالآن، فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به. (1)
ونقل ابن حجر موافقة افي خزيمة لهذا الرأي حيث قال: قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا: إن كان موسى عرفه فقد استخف به وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه؟ والجواب: أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ، بعثه إليه اختيارًا وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميًا دخل داره بغير إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه، وعلى تقدير أن يكون عرفه فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ! ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له؟ ! (2)
ولخص الخطابي كلام ابن خزيمة وزاد فيه:
أن موسى دفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة، وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ (3).
(1) صحيح ابن حبان 14/ 115 - 116 بتصرف يسير.
(2)
فتح الباري لابن حجر 6/ 510، وانظر: شرح مسلم للنووي 8/ 143.
(3)
فتح الباري لابن حجر 6/ 510.
قال البغوي: هذا الحديث يجب على الرء السلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جري عليه عرف البشر، فيقع في الارتياب، لأنه أمر مصدره عن قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه، وهو مجادلة بين ملك كريم ونبي كليم، كل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر، ومجاري عاداتهم في المعني الذي خص به، فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما، وقد اصطفي الله سبحانه وتعالي موسى برسالاته وبكلامه، وأيده بالآيات الظاهرة، والمعجزات الباهرة، كاليد البيضاء، والعصا، وانفلاق البحر، وغيرها مما نطق به القرآن، ودلت عليه الآثار، وكل ذلك إكرام من الله عز وجل أكرمه به، فلما دنت وفاته وهو بشر يكره الموت طبعًا، ويجد ألمه حسا، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه به قهرا، لكن أرسله له منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه، واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعًا عن نفسه بما كان من صكه إياه، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون صورة الملكية التي هو مجبول عليها، وقد كان في طبع موسى صلى الله عليه وسلم حمية وحِدَّة على ما قص الله علينا من أمره في كتابه من وكزه القبطي، وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه .. وقد جرت سنة الدين بدفع من قصدك بسوء، كما جاء في الحديث "مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ"(1)، فلما نظر موسى إلى شخص في صورة بشر، هجم عليه يريد نفسه، ويقصد هلاكه، وهو لا يثبته، ولا يعرفه أنه رسول ربه دفعه عن نفسه، فكان فيه ذهاب عينه، فلما عاد الملك إلي ربه، رد الله إليه عينه، وأعاده رسولًا إليه ليعلم نبي الله عليه السلام إذا رأي صحة عينيه المفقوءة أنه رسول الله بعثه ليقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره، وطاب نفسًا بقضائه، وكل ذلك رفق من الله عز وجل، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه، والانقياد لمورد قضائه (2).
(1) البخاري (6900)، مسلم (2158) واللفظ له.
(2)
شرح السنة للبغوي 5/ 267 - 268 بتصرف يسير.
القول الثاني:
قال ابن قتيبة: وقد جعل الله سبحانه للملائكة من الاستطاعة أن تتمثل في صور مختلفة وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جبريلُ عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي، ورآه مرة قد سد بجناحيه ما بين الأفقين، وكذلك جعل للجن أن تتمثل وتتخيل في صور مختلفة كما جعل للملائكة قال الله عز وجل:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} ، وليس ما تنتقل إليه من هذه الأمثل على الحقائق إنما هي تمثيل وتخييل لتلحقها الأبصار، ولما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة وعاد ملك الموت عليه السلام إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء (1).
القول الثالث: ذكره النووي عن بعض العلماء في شرحه علي صحيح مسلم حيث قال: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ الله تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَة، وَيَكُون ذَلِكَ اِمْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، وَالله سبحانه وتعالى يَفْعَلُ فِي خَلْقه مَا شَاءَ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ (2).
ونقل ابن الجوزي أن ابن عقيل جوز هذا حيث قال: قال ابن عقيل: يجوز أن يكون موسى قد أذن له في ذلك الفعل بملك الموت وابتلي ملك الموت بالصبر عليه كقصة الخضر مع موسى (3).
كما نقل ذلك ابن حجر في الفتح حيث ذكر كلام ابن عقيل في المسألة (4).
القول الرابع: ذهب إلية القرطبي في تفسيره حيث قال: أن موسى صلى الله عليه وسلم عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من "أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره"(5)، فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه
(1) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 277 - 278 بتصرف يسير.
(2)
شرح مسلم للنووي 8/ 143.
(3)
كشف المشكل في حديث الصحيحين لابن الجوزي 1/ 957.
(4)
فتح الباري لابن حجر 6/ 510.
(5)
انظر البخاري (4435)، مسلم (2444).