الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أيضًا عن سبب التعارض والاختلاف:
وإنما يؤتى من يؤتى هناك من قبل فهمه، وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة، فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف. (1)
ومن خلال الكلام السابق يظهر أن أسباب التعارض والاختلاف ترجع إلى:
- إما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة -مع كونه ثقة ثبتًا- فالثقة يغلط.
- وإما أن يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر، إذا كان مما يقبل النسخ.
- وإما أن يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم.
- وإما من جهة تقصير الناظر في معرقة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله.- أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معًا.
- أو تحكيم آراء الرجال، وقواعد مذهب من المذاهب على السنة النبوية.
المطلب الثاني: طرق دفع التعارض الظاهري
.
فإذا وقع هذا النوع من التعارض الظاهري -الموهوم- فإن أهل العلم يدفعونه بالطرق الآتية:
الطريقة الأولى: الجمع بين الدليلين اللذين ظاهرهما التعارض:
لاحتمال أن يكون بينهما عموم وخصوص، أو إطلاق وتقييد، أو مجمل ومبين؛ لأن القاعدة المقررة عند أهل العلم: أن إعمال الكلام أولى من إهماله. (2)
قال الشافعي: ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجهًا يمضيان معًا، إنما المختلف ما لم يمض إلا بسقوط غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد، هذا يحله، وهذا يحرمه. (3)
(1) إعلام الموقعين (2/ 425).
(2)
الإبهاج (2/ 129)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (1/ 135)، المنثور في القواعد للزركشي (11/ 134)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 128).
(3)
الرسالة (1/ 342).
قال الخطابي: وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر، وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر؛ أن لا يحملا على المنافاة، ولا يضرب بعضها ببعض، لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه، وبهذا جرت قضية العلماء في كثير من الحديث. (1)
كقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} مع قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} .
قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات؛ من شرائع الدين وفروعه، حمله غيره على اختلاف الأماكن؛ لأن في القيامة مواقف كثيرة، فموضع يسأل ويناقش، وموضع آخر يرحم ويلطف به، وموضع آخر يعنف ويوبخ، وهم الكفار، وموضع آخر لا يعنف، وهم المؤمنون. وكقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وذلك يبلغ ثمانية أيام، والجواب أن المراد بقوله:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} مع اليومين المتقدمين، ولم يرد بذكر الأربعة غير ما تقدم ذكره، وهذا كما يقول الفصيح: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يومًا، ولا يريد سوى العشرة، بل يريد مع العشرة ثلاثة ثم قال تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وأراد سوى الأربعة، وذلك لا مخالفة فيه؛ لأن المجموع يكون ستة. (2)
(1) معالم السنن (3/ 68).
(2)
البرهان في علوم القرآن (2/ 63: 54).
وكذلك ما ورد في قوله تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" فظاهر الحديث يخالف الآية، مما جعل أهل الحديث يبحثون في وجه الجمع بينهما، وممن قام بالجمع بينهما شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله حيث يقول:
ها هنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو: أن الجنة تدخل برحمة الله تعالى، وليس عمل العبد مستقلًا بدخولها، وإن كان سببًا.
ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين لوجهين:
أحدهما ما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم"(1).
والثاني: أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة؛ التي يكون فيها أحد العوضين مقابل للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية؛ التي تقضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًا بحصوله، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمرين بقوله:"لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلا أنتَ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلجْةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا"(2).
ومن عرف الله تعالى، وشهد مشهد حقه عليه، ومشهد تقصيره وذنوبه، وأبصر هذين المشهدين بقلبه؛ عرف ذلك وجزم به، والله سبحانه وتعالى المستعان (3).
(1) رواه الترمذي (2549)، ابن ماجه (4336)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1831).
(2)
البخاري (6463)، مسلم (2816) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (87 - 88) الباب التاسع عشر.