الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والابتهار للحرم، فهو المحظور من الغناء، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه، أو يترك النكير لهُ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به.
وقالَ أيضًا: وقول عائشة: (ليستا بمغنيتين)، إنما بينت ذلك، لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك لا يليق بحضرته، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيهِ فحش، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ينكر من الغناء النصب والحداء ونحوهما، وقد رخص فيه غير واحد من السلف. (1)
الوجه الرابع: كان يوم عيد
. (2)
قال الإمام النووي: "هَذَا عِيدنَا": أَنَّ ضَرْب دُفّ الْعَرَب مُبَاح فِي يَوْم السُّرُور الظَّاهِر، وَهُوَ الْعِيد وَالعرْس وَالختَان. (3)
ونقل الحافظ قول ابن المنير: العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره.
وقال: اللعب لا يوصف بالندبية؛ لكن يقربه أن المباح قد يرتفع بالنية إلى درجة ما يثاب عليه، ويحتمل أن يكون المراد أن تقديم العبادة على اللعب سنة أهل الإسلام. (4)
وقال الإمام النسائي: ضرب الدف يوم العيد. (5)
وقال: الرخصة في الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد. (6)
وقال أبو عوانة: (باب بيان إباحة اللعب في يوم العيد والضرب بالدف في أيام
(1) فتح الباري 8/ 432 - 433.
(2)
عند مسلم: "في أيام منى"(892)، وكذا عند النسائي (1797)، والبيهقي الكبرى 7/ 92.
(3)
شرح النووي 3/ 45، 453.
(4)
الفتح 2/ 510.
(5)
المجتبى (3/ 195).
(6)
المجتبى 3/ 196.
التشريق)، والدليل على أنها في أيام غير العيد مكروه. (1)
وقال أبو الحسن السندي: وفي الحديث دلالة على إباحة الغناء أيام السرور. (2)
قال أبو بكر بن العربي: وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أنَهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتهِ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّلَذُّذِ بِصَوْتها وَلَمْ يجزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لأنَّهُ يُشْهِرُهُ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: "دَعْهُمَا يَا أبا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ"، وَلَكِنْ لَا يجوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَار، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يجوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلهِ، وَاجْتُنِبَ مِنْ أَصْلِهِ. (3)
وقال ابن رجب الحنبلي: نقلًا عن الخطابي:
وقوله: (هذا عيدنا) يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير. انتهى.
وفي الحديث ما يدل على تحريصه في غير أيام العيد؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم علل بأنها أيام عيد فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.
وقد أقر أبا بكر رضي الله عنه على تسمية الدف مزمور الشيطان، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع.
وقد قال كثير من السلف، منهم قتادة: الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار، ومصايده النساء. (4)
وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على الرجال من التحلي
(1) المستخرج 2/ 155.
(2)
حاشية السندي على سنن النسائي 3/ 195.
(3)
أحكام القرآن 3/ 1494.
(4)
نزهة الأسماع لابن رجب الحنبلي 1/ 87.
والتزين بالحرير والذهب، وإنما أبيح للرجال منهم اليسير دون الكثير، فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعًا.
ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه، هذا قول الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية. (1) وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم النساء، أو من يشبه بهن من المخنثين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت. (2)
وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق، عملا بهذه السنة الصحيحة.
وسُئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه، فقال: كسب المخنث خبيث، كسبه بالغناء، نقله عنه المروزي. (3)
فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من لم يتغن بالقرآن (4)، والمرادة أنه يجعله عوضًا عن الغناء فيطرب به ويلتذ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر. وقد رُوي هذا العنى عن ابن مسعود رضي الله عنه-أيضًا"(5).
ومما يدخل في هذا الباب: ما روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:"ما هذان اليومان؟ " قالوا: نلعبهما في الجاهلية. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى"(6)
وقال ابن رجب: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد، والنكاح، وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان
(1) شعب الإيمان للبيهقي 4/ 284.
(2)
البخاري (5886).
(3)
الورع للمروزي 1/ 29.
(4)
البخاري (7527).
(5)
فتح الباري 8/ 432.
(6)
أخرجه أبو داود (1134)، والنسائي (1755)، وصححه الألباني في الصحيحة (2021).
في معناها، فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه؛ من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها الحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وروي عنه مرفوعًا. (1)
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم. فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً، وسميت آلاته دفوفًا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل؛ فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا، وغناء الأعراب المرخص به، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظًا ولا معنى؛ فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناءً ولا دفًا، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم، وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.
وقد صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي المأخوذة عن الأعاجم. (2)
وقال الألباني: إن هذا الذي أنكره يجوز في يوم عيد، فتنبه له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "دعهما
(1) صحيح موقوفًا، ولا يصح مرفوعًا، السلسلة الضعيفة للألباني (2430).
(2)
الفتح لابن رجب 8/ 428 - 431.