الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قليلًا وهم في آخر الزمان يَقِلُّون إِلَاّ أَنهم خيارٌ. (1)
فمن ذلك تكون الغربة بمعنى: القلة، ولا يكون المقصود من القلة الضعف.
والله عز وجل قد مدح القلة دائمًا طالما هم على الخير، وأثبت أن القلة دائمًا هم الذين يثبتون ويتميزون بالخير عن الكثرة، وبالعكس أخبر أن الكثرة مذمومة طالما على الشر؛ قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13)، وقال سبحانه:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (ص: 24)، وقال تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود: 40)، وقال عن الكثرة:{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16)، وقال:{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17)، وقال عز مِنْ قائل:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقال:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا} (البقرة: 150)، وقال:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111](الأنعام 111)، وغيرها من الآيات الكثير؛ فالقلة لا تعني ذمًا، بل إن الأقلاء أقوياء بالإسلام وباليقين.
ثانيًا: استعمالاتها في السنة النبوية:
وقد جاء استعمال الغربة في السنة النبوية على معانٍ عدة، يجمعها المعنى المشترك العام منها:
أ- بمعنى المقيم في غير وطنه وبين قوم غير قومه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". (2)
الوجه الثاني: ذكر الحديث، وبيان معناه
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ". (3)، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم سئل: من الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصلِحُونَ إذا فسد النَّاسِ". (4)، وفي رواية:"حين يفسد الناس"(5).
(1) لسان العرب (5/ 3226).
(2)
البخاري (6053).
(3)
مسلم (145)، الترمذي (2629)، ابن ماجه (3986).
(4)
مسند أحمد (4/ 74)، مسند الشهاب (1055).
(5)
المعجم الكبير (5867)، (8977)، والأوسط (4915)، وصححه الألباني في الصحيحة (1273).
وعن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: مَنْ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أُناسٌ صَالِحُونَ فِي أُناسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ"(1).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ المسْجِدَيْنِ كَما تَأْرِزُ الحيَّةُ فِي جُحْرِهَا"(2).
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: فِي قَوْله: (غَرِيبًا) رَوَى اِبْن أَبِي أُويس عَنْ مَالِك رحمه الله أَنَّ مَعْنَاهُ فِي المَدِينَة، وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ بها غريبًا وسيعود إليها. قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ فِي آحَاد مِنْ النَّاس، وَقِلَّة ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالْإِخْلَال، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ (3).
وعَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ الله رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْني ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ "
…
" (4).
قال ابن عبد البر: وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر، كانوا عند ذلك أيضًا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمن، كما زكت أعمال أوائلهم (5)(6).
(1) مسند أحمد (2/ 177)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (7368).
(2)
مسلم (146).
(3)
شرح النووي (1/ 454).
(4)
البخاري (2652)، مسلم (2533).
(5)
المعجم الأوسط (3660)، مسند الشهاب (1349)، صححه الألباني في الصحيحة (2286).
(6)
التمهيد (20/ 252).
ثم قال: وهذا من الإيمان والعمل الصالح في الزمن الفاسد الذي يرفع فيه العلم والدين من أهله، ويكثر الفسق، والهرج، ويذل المؤمن، ويعز الفاجر، ويعود الدين غريبًا كما بدأ، ويكون القائم فيه بدينه كالقابض على الجمر، فيتسوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، والله أعلم (1).
قال الملا علي القاري: "فطوبى للغرباء" المتشبثين بذيله، يعني: المسلمين الذين في أوله وآخره لصبرهم على الأذى، وقيل: المراد بالغرباء: المهاجرون الذي هاجروا إلى الله.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ (2)، وقال: وهذا إخبار عن آخر الزمان حين يقل الإسلام (3).
وقال ابن قتيبة: أراد بقوله: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا" أن أهل الإسلام حين بدأ قليل، وهم في آخر الزمان قليل إلا أنهم خيار (4).
وقال ابن رجب: يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم؛ عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"(5)(6).
ومعنى ذلك كما لا يخفى أنه بدأ غريبًا لا يعرفه إلا القلائل، ثم انتشر وعز بحمد الله على الأديان كلها، ثم عاد غريبًا بسبب اختلاف الناس واتباع الأهواء وقلة العلم. (7)
وفحوى هذه الأحاديث أن دين الإسلام الذي خرج من مهده الحجاز وانبسط في الأرض
(1) التمهيد (20/ 255).
(2)
تحفة الأحوذي (7/ 318).
(3)
تحفة الأحوذي (7/ 319).
(4)
تأويل مختلف الحديث (1/ 114).
(5)
كشف الكربة في وصف أهل الغربة (1/ 1).
(6)
مسلم (2865).
(7)
مجلة الجامعة الإسلامية (36/ 136).
فاتحًا مصلحًا- سوف يغلب على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم؛ حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي به وهو الحجاز، فيعتصم فيه ويكون معقلًا وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره. (1)
وفي الحديث بيان مبدأ الإسلام وأنه بدأ غريبًا بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريبًا بين أهله وعشيرته يؤذى بسبب ذلك، ويفتن في دينه ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله، مطيعين لأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة؛ فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم، وسيعود الإسلام غريبًا كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا) لقلة المتمسكين به، وهذه الغربة تزداد شيئًا فشيئًا بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس (2).
قال ابن القيم: فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون؛ ولقلتهم في الناس جدًّا سموا غرباء؛ فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا؛ فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين (3).
وقال أيضًا: ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله؛ لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده؛ وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، وأكثر الناس بل كلهم
(1) مجلة المنار (22/ 23).
(2)
مجلة البيان (7/ 23: 22).
(3)
مدارج السالكين (3/ 196: 195).
لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم (1).
قال ابن القيم: فالغربة ثلاثة أنواع: الغربة الأولى: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق؛ وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبًا وأنه سيعود غريبًا كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء، وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم (2).
ومن هؤلاء الغرباء من ذكرهم أنس رضي الله عنه في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: رُبَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لَأَبرَّهُ (3).
والغربة الثانية: غربة مذمومة، وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق، فهي غربة بين حزب الله المفلحين، وإن كثر أهلها فهم غرباء على كثرة أصحابهم وأشياعهم أهل وحشة على كثرة مؤنسهم يعرفون في أهل الأرض ويخفون على أهل السماء.
والنوع الثالث: غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم، وهي الغربة عن الوطن فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء؛ فإنها ليست لهم بدار مقام ولا هي الدار التي خلقوا لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنه:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"(4)(5).
قال ابن باز: معناه أن الإسلام بدأ غريبًا كما كان الحال في مكة وفي المدينة في أولى الهجرة لا يعرف؛ غريبًا في آخر الزمان كما بدأ لا يعرفه حق المعرفة إلا القليل من الناس، ولا يعمل به على الوجه المشروع إلا القليل من الناس وهم الغرباء (6).
(1) مدارج السالكين (3/ 197).
(2)
مدارج السالكين (3/ 196).
(3)
الترمذي (3854)، مسند أحمد (3/ 145).
(4)
البخاري (6416).
(5)
مدارج السالكين (3/ 200).
(6)
فتاوى إسلامية (4/ 133).