الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذَى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون - من بين يوم وليلة - وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال (1).
فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ حتى ظهر دين الله، وأعلن ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله.
قال ابن رجب الحنبلي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعل رزقي تحت ظل رمحي": إشارة إلى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بعثه داعيًا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه؛ فإن المال إنما خلقه الله لبني آدم ليستعينوا به على طاعته وعبادته، فمن استعان به على الكفر بالله والشرك به سلط الله عليه رسوله وأتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أجل عبادة الله وتوحيده وطاعته، وقال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (الأنفال: 69).
وقال أيضًا: وكان صلى الله عليه وسلم إنما كان يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، لا لأجل الغنيمة؛ فيحصل له الرزق تبعًا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فرغ وقتًا من أوقاته لطلب الرزق محضًا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وحده فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسرًا في ضمن ذلك من غير أن يقصده ولا يسعى إليه.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله تعالى بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، فكان صلى الله عليه وسلم شغله بطاعة الله والدعوة إلى التوحيد، وما يحصل في خلال ذلك من الأموال من الفيء والغنائم يحصل تبعًا لا قصدًا أصليًا، ولهذا ذم من ترك الجهاد، واشتغل عنه باكتساب الأموال (2).
الوجه الرابع: بيان أن الإسلام لم يكره أحدًا للدخول فيه
(3).
(1) ابن ماجه (151)، مسند أحمد (3/ 120)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (123).
(2)
الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب الحنبلي (13: 1).
(3)
انظر: شبهة الإرهاب وانتشار الإسلام بالسيف، ففيها وجوه عدة في الرد على ذلك.
يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} (البقرة 256).
يقول ابن كثير: أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له:"ما عندك يا ثمامة؟ " قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، فقال:"أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نجل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (2).
(1) تفسير ابن كثير (2/ 444).
(2)
البخاري (4372)، مسلم (1764).
وفي هذا الحديث بيان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو كان سفكًا للدماء كما يُقال ما كلمه، ولا أمهله، فاقْتَصَرَ فِي الْيَوْم الثَّالِث عَلَى الْإِجْمَال تَفْوِيضًا إِلَى جَمِيل خُلُقه صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث تعْظِيم أَمْر الْعَفْو عَنْ المُسِيء؛ لِأَنَّ ثمامَة أَقْسَمَ أَنَّ بُغْضه اِنْقَلَبَ حُبًّا فِي سَاعَة وَاحِدَة لمِا أَسَدَاهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ مِنْ الْعَفْو وَالمُنّ بِغَيْرِ مُقَابِل (1).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أبو مُوسَى: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا. (2)
فأين ذكر السيف والكلام؟ .
وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد لحظة من غير ضمها إلى التبشير (3).
ولكن هناك حديث قد يتوهم البعض أن فيه غدرًا.
فعن ابْنِ عَوْنٍ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلهُ عَنْ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ أَغَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبْيَهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ قَالَ يَحْيَى أَحْسِبُهُ قَالَ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الحارِثِ. وَحَدَّثَنِي هَذَا الحدِيثَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَاكَ الجيْشِ (4).
قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الْإِغَارَة عَلَى الْكُفَّار الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَة مِنْ غَيْر إِنْذَار بِالْإِغَارَةِ. ويَجِب الإنذار إِنْ لَمْ تَبْلُغهُمْ الدَّعْوَة، وَلَا يَجِب إِنْ بَلَغَتْهُمْ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر الأمراء على البعوث ويوصيهم بأشياء تدل على أن هذا الدين لم ينتشر بالحدة مطلقًا، فعن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ؛ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى الله وَمَنْ مَعَهُ مِنْ المُسْلِمِينَ خَيْرًا؛ ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِاسْمِ الله فِي سَبِيلِ
(1) فتح الباري (8/ 104: 103).
(2)
مسلم (1732).
(3)
شرح النووي (12/ 41).
(4)
البخاري (2541)، مسلم (1730) واللفظ له.