الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد يصاب من سيأكل أو يشرب منه ببقايا ذلك السم، أو لعل أحدًا أن يأتي وهو لا يعلم بما حدث للإناء فيشرب أو يأكل منه فيصاب بالأذى لذلك، وقد يصاب بالأمراض الكثيرة من جراء ذلك، فإذا لم يكن مستسيغًا للأكل أو للشرب من هذا الإناء فلا حرج عليه، لكن عليه أن يطبق أمر غمس الذباب حتى يَسلم من أضراره وأمراضه.
وكذلك فإن الأصل في الشراب والطعام الإباحة، فإذا كان أصل الشيء على الإباحة، فكذلك الفرع منه، فإن سقط الذباب في الإناء فليغمسه ليُطهّر من المرض، ثم أَمْر الطعام والشراب بعد ذلك لم يوجبه في نص الحديث، وليس في الحديث ما يدل على وجوب الشرب منه بعد غمسه، فرجع الأمر إلى أصل الإباحة.
خامسًا: أن البعض قد ظنوا أن هذا الحديث هو من الأمور التي تخضع للاجتهاد قد تصيب وقد تخطئ
.
والجواب: أن أقواله صلى الله عليه وسلم محكوم بعصمتها، فهو لا ينطق عن الهوى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 3) خاصة إذا كان هذا الأمر في شيء لا يحتمل الاجتهاد، بل هو من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وإلا لطعن الطاعنون في أقواله صلى الله عليه وسلم؛ بدعوى عدم جدواها وعدم نفعها لعدم موافقتها للواقع -كما يزعمون-؛ فإذا وافقت الواقع كان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ ودليلًا على صدق رسالته، واعلم أن علماء هذا الزمان في كل يوم يثبتون أمرًا من سننه، ودليلًا من هديه صلى الله عليه وسلم، بل ويرشدون الناس إليه.
واعلم أن ديننا لا يحتاج إلى تجارب أو براهين حتى نقبله بل الأصل أن تؤمن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ سواء علمت حقيقة ذلك أو جهلته، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).
سادسًا: قولهم أن موضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته، ولا من شرائعه، ولا التزم المسلمون العمل به، بل لم يعمل به أحد منهم لأنه لا دخل له في التشريع، وإنما هو في أمور الدنيا كحديث "تأبير النخل
".
أما الزعم بأنه ليس من عقائد الإسلام، ولا من عباداته، ولا دخل له في التشريع، وإنما هو من أمور الدنيا التي يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم فيها الخطأ، كحديث "تأبير النخل"(1)؛ فالغرض منه تحقير الحديث والتهوين من أمره وتنفير الناس عنه، وبالتالي فإن من ردَّه أو ارتاب فيه لم يؤثر ذلك على دينه في شيء، وهو أمر في غاية الخطورة والتلبيس، لأن أمور الدنيا منها ما هو خاضع لأحكام الشرع، فهي داخلة تحت الأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنهي عن مخالفته، وأمره صلى الله عليه وسلم قد يكون واجبًا وقد يكون مستحبًا، وقياس حديث الذباب وغيره من أحاديث الطب النبوي على أحاديث تأبير النخل قياس غير صحيح؛ لأن معظم أحاديث الطب - إن لم تكن كلها - ساقها النبي صلى الله عليه وسلم مساق القطع واليقين مما يدل على أنها بوحي من الله سبحانه وداخلة في التشريع، فقال في حديث الذباب:"فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء"، فأتى بـ (إن) المفيدة للتأكيد، بخلاف أحاديث تأبير النخل التي ساقها صلى الله عليه وسلم مساق الرجاء والظن؛ لأنها في أمور الدنيا ومعايشها فقال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا، وفي رواية "ما أظن يغني ذلك شيئًا"(2)، وفرق كبير بين الأسلوبين.
ولذلك قال الإمام النووي عند شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث (تأبير النخل): "وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعًا يجب العمل به، وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله" (3).
فما وقع في حديث التأبير كان ظنًا منه صلى الله عليه وسلم، وهو صادق في ظنه، وخطأ الظن ليس كذبًا، وقد رجع عن ظنه الذي ظنه في قوله:"إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه"(4) بخلاف ما جاء في حديث الذباب، فإنه أخبر بأن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء، وهذا لا يكون إلا بوحي من
(1) مسلم (2362).
(2)
مسلم (2361).
(3)
شرح مسلم للنووي (8/ 128).
(4)
مسلم (2361).