الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على غائب الأمور، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علوم النجوم وفي معانيه لا أنه نظر بعينه إليها، وهو كما يقال فلان نظر في الفقه وفي النحو وإنما أراد أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون ويتعرف من حيث يتعرفون حتى إذا قال:{إِنِّي سَقِيمٌ} سكنوا إلى قوله. (1)
السادس: أن علم النجوم كان من النبوة
.
فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فنظر إبراهيم عليه السلام فيها كان علمًا نبويًا. (2)
وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقيًا إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم: من أين علمتم موضعه؟ قالوا: من النجوم، فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد، فصار حكمها في الشرع محظورًا وعلمها في الناس مجهولًا. (3)
الوجه الثاني: بيان معنى قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}
.
الأول: كلام أهل اللغة حول كلمة سقيم: السَّقام، والسُّقْم، والسَّقَم: المرض، لغات مثل حُزْن، وحَزَن، وقد سَقِمَ الرجل يَسْقُم فهو سقيم ورجل مسقام، إذا كان يعتريه السقم كثيرًا. (4)
الثاني: كلام أهل العلم بالتفسير والحديث وغيرهم حول كلمة سقيم.
(1) الكشاف 4/ 49، تفسير الرازي 26/ 147، تفسير أبو السعود 7/ 197.
(2)
النكت والعيون (5/ 55)، تفسير القرطبي 15/ 93، منسوبًا إلى ابن عباس.
قلت: وقد أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب القول في علم النجوم (ص 198) عن علي رضي الله عنه، وساق متنه، ثم قال بعده: في إسناد هذا الحديث غير واحد مجهول، وقد ذكر صاحب كتاب كنز العمال (حديث 29421)، وعزاه إلى الخطيب، وقال: إسناده ضعيف.
(3)
إسناده ضعيف جدًّا. فيه جويبر: ضعيف جدًّا كما في التقريب (1/ 94)، وقال النسائي: متروك.
(4)
تاج العروس 1/ 7756، تهذيب اللغة 8/ 424، لسان العرب 3/ 2042.
الأول: سقيم مريض، ونوع المرض هنا الطاعون، والمعنى: إني مطعون، وهو مروي عن ابن عباس (1)، الضحاك (2)، سفيان (3).
وهذا كله من باب المعاريض (الحيل) التي استخدمها سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى يخلو بها إلى أصنامهم، فقال إني سقيم ليلزم مكانه ويفارقوه، ولم ينطق إبراهيم بأن النجوم دلته على أنه سقيم، ولكنه لما جعل قوله:(إني سقيم) مقارنًا لنظره في النجوم أوهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم (4).
وعلى هذا فلم يكن مريضًا جسمانيًا، بدليل أنه حطم الأصنام، وهي تحتاج إلى مشقة عالية، وإنما هذا من باب المعاريض (5).
وعلى القول بأنه سقيم فسقمه سقم نفسي من تماديهم في الباطل على ما يأتي:
الثاني: سقيم بالنسبة إلى ما يستقبل من مرض الموت.
(1) تفسير الطبري 23/ 72، إسناده ضعيف فيه انقطاع.
(2)
تفسير الطبري 23/ 71، وزاد السيوطي في الدر المنثور 7/ 100 نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر، إسناده ضعيف فيه انقطاع بين شيخ الطبري والحسين.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (18217).
(4)
التحرير والتنوير (23/ 142).
(5)
قال ابن حجر: المعاريض، قال الجوهري: هو خلاف التصريح وهو التورية بالشيء عن الشيء. وقال الراغب: كلام له وجهان صدق وكذب أو باطن وظاهر، قال ابن حجر: والأولى أن يقال كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه، وشرط جواز استعمال المعاريض هو التخلص من الظلم أو حصول حق، وأما استعمالهما في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز وشرط آخر وهو عدم القسم. (فتح الباري 10/ 610)، وانظر النووي في شرح صحيح مسلم (7/ 381)، فقول إبراهيم:{إِنِّي سَقِيمٌ} ولم يكن مريضا هذا من باب المعاريض وهذا ليس من باب الكذب، وأما إطلاقه اسم الكذب عليها فلكونه قال قولًا يعتقده السامع كذبًا، لكنه إذا حقق لم يكن كذبًا، فليس هذا بكذب محض، قال النووي: ومعناه (أي في إطلاق اسم الكذب على ذلك) إنما هي بالنسبة إلى فهم المخاطب والسامع، وأما في نفس الأمر فليست كذبًا مذمومًا لوجهين: أحدهما: أنه ورى بها، الثاني: لو كان كذبًا لا تورية فيه لكان جائزًا في دفع الظالمين (فتح الباري 6/ 451)، شرح صحيح مسلم (8/ 136).
لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا كما قال الله سبحانه (إنك ميت وإنهم ميتون)، أي: ستموت. (1)
قال الزمخشري: ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم. ومنه المثل: كفي بالسلامة داء. وقول لبيد:
فَدَعَوْتُ رَبِّي بالسَّلامَةِ جَاهِدا
…
لِيُصِحَّنِي فَإذَا السَّلامَةُ دَاءُ
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه. (2)
الثالث: سقيم بمعنى: مريض القلب عن عبادتكم هذه الأوثان. (3)
ومنه قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} .
الرابع: سقيم أي: سأسقم، فالْإِنْسَان عُرْضَة لِلْأَسْقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الاعْتِذَار عَنْ الخُرُوج مَعَهُمْ إِلَى عِيدهمْ، وَشُهُود بَاطِلهمْ وَكُفْرهمْ، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرًا (4).
الخامس: سقيم أي: سقيم الحجة على الخروج معكم. (5)
السادس: أنه نظر نظرة في النجوم في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه سقامة كالحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة وقال:{إِنِّي سَقِيمٌ}
(1) معاني القرآن للزجاج (4/ 308)، النكت والعيون (5/ 56)، تفسير الرازي (26/ 147)، تفسير القرطبي (15/ 93)، شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 137)، تفسير النسفي (4/ 24)، ابن كثير في التفسير (12/ 35)، فتح الباري (6/ 451) روح المعاني (23/ 101)، فتح البيان (11/ 401).
(2)
الكشاف (4/ 49).
(3)
النكت والعيون (5/ 56)، الكشاف (4/ 49)، تفسير الرازي (26/ 147)، تفسير القرطبي (15/ 94).
(4)
النووى في شرح صحيح مسلم (8/ 137)، فتح الباري (6/ 451).
(5)
فتح الباري (6/ 451).