الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
تقدمة بين يدي الكتاب
…
تقدمة بين يدي الكتاب:
الحمد لله الذي أنزل على عبده ونبيه محمد القرآن وحيا يتلى، وأنزل عليه السنة وحيا غير متلو، حيث قال فيما صح عنه:"ألا إنني أوتيت الكتاب، ومثله معه" 1، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بعثه الله على حين فترة من الرسل ليفتح به أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فملأ الدنيا إيمانا وتوحيدا بعد أن ملئت شركا وكفرا، وهدى بعد أن ملئت ضلالا وخيرا بعد أن ملئت شرا، وعلما بعد أن ملئت جهلا، ونورا بعد أن كانت في ظلمات وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن علم الحديث النبوي الشريف لم يزل من قديم الزمان -والإسلام غض طري، والدين محكم الأساس قوي- أشرف العلوم وأجلها، وأنفعها وأبقاها ذكرا، وأعظمها أثرا، بعد علم القرآن الكريم الذي هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم.
وقد عنيت الأمة الإسلامية من لدن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ الأحاديث وروايتها، والالتزام بها علما، وعملا، وسلوكا، وأخلاقا ثم عنيت بجمعها، وتدوينها في كتب الأحاديث والسنن، من الصحاح،
1 رواه أبو داود في سننه مطولا، كتاب السنة -باب لزوم السنة، وهو حديث صحيح، ورواه الترمذي بأوجز من رواية أبي داود.
والسنن، والمسانيد والمعاجم، والجوامع، والمشيخات، والأجزاء ونحوها1.
وكذلك عنيت بالرواة، والمرويات من حيث القبول والرد، ووضعوا في ذلك أدق، وآصل، وأحكم قواعد النقد العلمي الصحيح، وتركوا لنا في علم تاريخ الرجال ثروة نادرة لا توجد في أية أمة من الأمم الأخرى وفي علم الجرح والتعديل ما لم يعرف عند أمة أخرى.
وكانت هذه العناية ممثلة في علماء الحديث، وجهابذته2، وأئمته النقاد الذين قضوا حياتهم في الارتحال، والأسفار، وجانبوا الراحة والاستقرار في سبيل لقاء الرواة، والبحث عنهم، وميزانهم بميزان دقيق، لا تحيف فيه على أحد منهم ولا غبن له، ولا نقص لحقه.
كما تكلموا في علم غريب الحديث، وعلم علله، وعلم مختلف الحديث ومشكله، وعلم ناسخه، ومنسوخه، وعلم محكمه، ومتشابهه، وعلم أسباب وروده وعلم التنبيه إلى التصحيف والتحريف الذي وقع فيه بعض المحدثين إلى غير ذلك من العلوم وهكذا نجد أنه ما من علم يتعلق بجانب من جوانب الحديث إلا وتكلموا فيه وأوسعوه شرحا وبيانا.
وكذلك عنوا بضبط متون الأحاديث ضبطا محكما متقنا، وتحقيق الروايات وتحريرها، ويبدو ذلك جليا في النسخة المحققة من صحيح الإمام البخاري.
وكذلك عنوا بشرح الأحاديث وبيان معانيها الإفرادية والتركيبية وما يستنبط منها من العقائد، والأحكام، والحكم، والآداب، وما تشتمل عليه من وجوه البلاغة وأساليب البيان، والمحسنات البديعية، حتى غدت كتب هذه الشروح دواوين عقيدة وشريعة، وأخلاق، ومواعظ،
1 سيأتي إن شاء الله تعالى شرح ذلك كله.
2 جمع جهبذ -بكسر الجيم- الناقد البصير.
وعلم، وأدب، وبلاغة وبيان فكانت كالحديقة المزهرة المثمرة الغناء التي يتنتقل فيها الناظر من روض إلى روض، ومن ثمار إلى ثمار، ومن زهور إلى زهور حتى غدت متع القلوب ومشتهى النفوس، وانشراح الصدور، وقرات العيون.
إن تأليفي لهذا الكتاب يرجع إلى نحو ثلث قرن أو يزيد، حينما كنت أقوم بتدريس "الحديث الشريف" و"علومه" بكلية أصول الدين، إحدى كليات الجامع الأزهر العتيق، المعمور بالعلم والعلماء، أيام أن كان الأزهر الشريف بكلياته ومعاهده الدينية العلمية -هو الأزهر- والعلم هو العلم، وطلاب الأزهر -هم الطلاب- وحرصهم على العلم هو الحرص.
وقد كان في أول الأمر مباحث مكتوبة بخط يدي أمليها على الطلاب شيئًا فشيئًا، ثم بدا لي -ونعم ما بدا- أن أجمع هذه البحوث، ولا زلت أهذبها وأنقحها، وأقدم فيها وأؤخر، وأزيد فيها وأعيد حتى جاءت على هذا الوضع الحسن المستطاب.
ومن فضل الله على أني لا أسطر كلمة في العلم، ولا أكتب بحثًا، ولا أحقق مسألة من مسائل إلا وأحتفظ بما أكتبه عندي في حرز مصون، وما احتفظت بشيء مما كتبت إلا وانتفعت به غاية الانتفاع، حتى البحوث التي كتبتها في زمن طلب العلم.
ولعلكم تعجبون إذا قلت لكم -صادقًا- أني ما فرطت في كتاب ولا في "دفتر"1 من الدفاتر التي كانت عندي من عهد الصبا والطلب، وبعضها موجود في "مكتبتي" بقريتنا إلى يومنا هذا.
1 الدفتر -بفتح الدال وكسرها- مجموعة من الأوراق التي يكتب فيها جمعة دفاتر كما في القاموس والكراس بضم الكاف والكراسة الصحف أو جزء الصحيفة التي يكتب فيها.