الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودون الألفين، ثم أصحاب المئين يعني من روى أكثر من مائة وأقل من ألف، وهكذا إلى أن ذكر من روى عنه حديثان ثم من روى عنه حديث واحد.
ومسند بقي بن مخلد من أجل كتب المسانيد، كتبه على أسماء الصحابة، ثم رتب أحاديث كل صحابي على أبواب الفقه فجاء كتابا حافلا في بابه جامعا بين الطريقتين: طريقة المسانيد وطريقة التأليف على الأبواب، وقد فضله الإمام ابن حزم على مسند الإمام أحمد، ومن أراد الاستيعاب عن بقي ومسنده فليرجع إلى كتابي "أعلام المحدثين ص103".
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا العدد يدخل فيه الأحاديث المكررة، فإن بعض المحدثين يعتبرون الحديث المكرر بمنزلة أحاديث، والحديث الواحد المفرق قطعا على حسب الاستدلال بمثابة أحاديث، ولم توجه سهام النقد الطائشة لأحد من المكثرين من الرواية أكثر ما وجهت إلى الصحابي الجليل أبي هريرة؛ لذلك رأيت لزاما عليّ في هذا المقام أن أكتب كلمة إنصاف لهذا الصحابي المظلوم على أساس من قواعد البحث العلمي الصحيح لا على أساس من الهوى والتعصب.
"
الصحابي المظلوم أبو هريرة
":
لم أر أحدا من الصحابة -فيما أعلم- تعرض لسهام النقد الظالم بمثل ما تعرض له سيدنا أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- وهذه الحملة الجائرة تضرب في القدم إلى آماد بعيدة، فقد نقل لنا العلامة ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" الكثير مما رمي به أبو هريرة في القديم من النظام وأمثاله من أهل البدع والأهواء الذين لا علم لهم بالحديث ورجاله، ثم رد على طعونهم وتكلم كلام رجل عالم عاقل مثبت
نرجو أن يكافئه الحق عليه1.
ولم نر أحدا يعتد به من أئمة العلم في الإسلام تعرض لأبي هريرة بما يغض من شأنه، أو يحط من قدره، ثم جاء بعض المستشرقين فوقعوا على أقوال هؤلاء المتحاملين، فأخذوها وزادوا وأعادوا فيها، ثم طلعوا علينا بآراء مبتسرة وأحكام جائرة، ولعل من نافلة القول أن أنبه إلى الأغراض السيئة التي يقصدها المستشرقون من وراء حملاتهم التي هي امتداد للحملات الصليبية، والتي يقصدون منها تقويض دعائم الإسلام والعروبة، وإضعاف الروح الدينية في نفوس المسلمين، كي يتم لدولهم ما تريد من الغلب السياسي، والاستئثار بخيرات البلاد، واستذلال رقاب العباد، وهم -شهد الله- يريدون من الطعن في بعض الصحابة حينا وفي السنة حينا آخر تشكيك المسلمين في الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام، وهي السنة، وتقليل الثقة بها، وإذا تشكك المسلمون في السنة، وقللوا الثقة بها استعجم عليهم فهم القرآن، ومعرفة المراد منه، وإذا استعجم القرآن، فقل على الإسلام العفاء.
وقد نجح المستشرقون إلى حد ما في التأثير في بعض الكتاب المسلمين، ولا سيما الذين صنعوهم على يديهم في العصر الأخير، فاقتفوا آثارهم فيما زعموا، ورددوا دعاواهم التي لم يقم عليها دليل، بل وزادوا عليها من عند أنفسهم، وهؤلاء وأولئك نفثوا سمومهم تحت ستار البحث وحرية النقد، والله يعلم والراسخون في العلم أن ما زعموا أبعد ما يكون عن العلم الصحيح والبحث القويم، والنقد النزيه.
وقد تابعهم بعض الباحثين من أهل العلم والمعرفة في بعض ما قالوا وذلك كما صنع صاحب "فجر الإسلام" و"ضحاه"، وتابعهم أيضا
1 من المؤسف أن بعض الطاعنين في أبي هريرة من المتأخرين نسبوا هذا إلى ابن قتيبة مما يوهم القارئ أن الطاعن ابن قتيبة، وهو تدليس قبيح، وافتراء دنيء لا يليق افتراؤه بأهل العلم والأدب.
بعض أدعياء العلم والأدب في كل ما قالوه، بل وأربي عليهم، وذلك كما صنع صاحب كتاب "أضواء على السنة المحمدية" وقد عقد في كتابه فصلا طويلا تحت عنوان "أبو هريرة" حشاه بكل حارجة من السباب والشتيمة، وتهجم فيه عليه وعلى بعض الصحابة ورماهم بالكذب والاختلاق، وردد في هذا مقالة النظام وغيره من الطاعنين، وتبعهم حذو النعل بالنعل، ولا تكاد تطلع على صفحة من هذا الفصل إلا وتجد فيها من الأخطاء العلمية، والإسفاف في التعبير ما نربأ بأي كاتب عنهما مما يدل على أنه دخل إلى هذا البحث، وهو متشبع بأهواء وأحقاد نفسية مما نأى به عن البحث المستقيم، والرأي الصواب.
وقواعد البحث النزيه تقتضي من الباحث إذا ما شرح في بحث أن يجمع مادته ونصوصه ثم يجرد نفسه من أي هوى أو رأي خاص، ثم يبحث ويمحض الروايات، ويوازن بين النصوص حتى يأتي حكمه أقرب إلى الحق والصواب، أما أن يأخذ ما يشاء بهواه، ويدع ما يشاء بهواه، فهذا ما لا تقره قواعد البحث العلمي الصحيح والنقد النزيه.
من هو أبو هريرة؟ هو عبد الرحمن بن صخر أو عبد الله على الأصح على كثرة ما اختلف في اسمه، واسم أبيه في الجاهلية والإسلام، وهو دوسي ودوس قبيلة من الأزد إحدى قبائل اليمن، وكان ذا شرف فيهم. قال ابن إسحاق:"كان وسيطا في دوس" ولم يختلف أحد أنه قدم على النبي مسلما عقب خيبر وكانت في المحرم سنة سبع فيكون صاحب النبي أربع سنين قضى منها فترة وجيزة مع الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي بالبحرين مؤذنا ومعلما كما روى ذلك ابن سعد في الطبقات فما يخلص له من زمن مصاحبته للنبي يزيد عن ثلاث سنوات، وهي ليست بالزمن القصير في عمر الصحبة، وليس ببدع في العقل، ولا في العادة أن يجمع شخص فيها من الأحاديث أكثرها مما يجمعه غيره، ولا سيما إذا كان له من التفرغ والإقبال على العلم وقوة الحافظة والذكاء، وطول العمر
والأسباب الحاملة على الإكثار ما لم يتهيأ لغيره، وإنا لنجد في العصور المتقدمة والمتأخرة -على فرق ما بين الحالين- بعض التلاميذ والمريدين الذين لازموا أساتذتهم وشيوخهم مدة غير طويلة يقيدون عنهم الكتب والمجلدات ويحفظون عن ظهر قلب من كلامهم ما يربو على ما حفظه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أن لا يعزب عن علمنا أن هذه الخمسة الآلاف وزيادة من الأحاديث؛ منها ما لا يزيد عن بضعة أسطر ومنها ما هو دون ذلك؛ وهي تشمل كل ما سمعه من النبي أو رآه من فعله، أو تلقاه عن غيره من قدماء الصحابة فأي غرابة في هذه؟ وإليك أهم الأسباب والبواعث لهذا الإكثار.
بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به
…
"1.
2-
هذا إلى ما امتاز به من ذاكرة قوية، وحافظة نادرة بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعت ما رواه مسلم آنفا، وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال:"قلت يا رسول الله إني لأسمع منك حديثا أنساه فقال: "ابسط رداءك" قال: فبسطته، فغرف بيده، ثم قال: "ضمه" ، فضممته فما نسيت شيئا بعد"، وقد رويت هذه القصة من طرق كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة2 وقد عد العلماء هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم وروى النسائي بسند جيد في "العلم" من كتاب "السنن"، والحاكم في المستدرك أن زيد بن ثابت قال:"كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ادعوا" فدعوت أنا وصاحبي، وأمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي وأسألك علما لا ينسى، فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ونحن يا رسول الله، فقال: "سبقكما به الغلام الدوسي" ، وقد صدقت الحوادث هذه الميزة في أبي هريرة، روي عن أبي الزعيزعة كاتب مروان قال: "أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه فسأله، وأمرني أن أنظر، فما غير حرفا عن حرف" وروى البخاري في التاريخ من حديث محمد بن عمارة بن حزم "أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه
…
فعل ذلك مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الصحابة".
فلا تعجب إذا كان حظي بثناء الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم
1 شكك في هذا الحديث المستشرق اليهودي "جولد زيهر". انظر "دائرة المعارف الإسلامية المجلد الأول ص407" وتابعه على إنكارها أبو رية وأمثاله.
2 "الإصابة في تمييز الصحابة" من أجل الكتب في سير الصحابة.
من أئمة العلم والفقه والرواية، فهذا هو ابن عمر رضي الله عنهما يترحم عليه في جنازته ويقول:"كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم"، رواه ابن سعد في طبقاته، وروى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال:"كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام الشافعي:"أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره"، وقال الإمام البخاري:"روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم وكان أحفظ من روى الحديث في عصره"، فهل نصدق هؤلاء الأئمة أم نصدق المستشرقين وأبواقهم؟
وكان رضي الله عنه إذا بدأ الحديث يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ، رواه أحمد، وروى مسدد في مسنده عن أبي هريرة قال:"بلغ عمر حديثي فقال لي: كنت معنا يوم كنا في بيت فلان؟ قلت: نعم إن رسول الله قال يومئذ: "من كذب عليّ
…
" الحديث، قال: فاذهب الآن فحدث"، وهذا يدل على شدة تحريه وتنبئه في الرواية.
3-
حرصه البالغ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا؛ وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، روى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه".
4-
لقد كان من دواعي إكثاره أيضا تفرغه للعلم والرواية والفتيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتول الإمارة إلا فترة من حياته زمان الفاروق عمر ثم رغب عنها فيما بعد، روى عبد الرزاق بسنده عن ابن سيرين: "أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال، فمن أين لك؟ قال: خيل نتجت، وأعطية
تتابعت، وخراج رقيق لي، فنظر فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله فأبى، فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك قال: إنه يوسف نبي الله ابن نبي الله، وأنا أبو هريرة بن أمية، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري ويشتم عرضي وينزع مالي.
5-
تأخر وفاته، فقد توفي سنة سبع وخمسين على الصحيح، وقيل ثمان أو تسع وخمسين للهجرة، وقد أتاح له تفرغه، وتأخر وفاته أن كان الآخذون عنه كثيرون جدا، وقد سمعت مقالة البخاري الآنفة، وأنه له من الأصحاب والتلاميذ نحو الثمانمائة1، وغير خفي عنا أن للأصحاب والتلاميذ الفضل الأكبر في نشر علم الشيخ وحديثه وعلى قدر كثرتهم أو قلتهم يكون شهرة مذهب الإمام أو عدم شهرته، ومن الكلمات المأثورة عن الإمام الشافعي قوله:"الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به"، فلا تعجب بعد هذه المقدمات أن يكون أبو هريرة أكثر الصحابة رواية، ومن أراد استيفاء الرد على كل ما أثير حول أبي هريرة وغيره من الصحابة فليرجع إلى كتابي "دفاع عن السنة"2.
"فائدة": السبب في قلة مرويات الصديق رضي الله تعالى عنه مع أنه أول من آمن من الرجال وأفضل الصحابة مع كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أن الكثرة في الرواية لا ترجع إلى طول الصحبة فحسب، بل هناك عوامل أخرى عرضنا لها في بيان الحق في كثرة رواية أبي هريرة كالتفرغ للعلم والرواية، وتأخر الوفاة، والصديق رضي الله عنه اشتغل عقب وفاة الرسول بمهام الخلافة، وتثبيت دعائم الإسلام بقتال المرتدين، ونشر رسالة الإسلام، فلم يكن عنده وقت للرواية، وأيضا فقد تقدمت وفاته قبل استقرار الأحوال، وانتشار الحديث وتفرغ الناس للعلم، واعتنائهم بسماعه وتحصيله وحفظه.
1 الإصابة في تاريخ الصحابة ج4 ص202-210، والاستيعاب على هامش الإصابة ج4 ص202.
2 من ص107-147، وقد طبع ونفذ، وقد نعيد طبعه إن شاء الله تعالى.