الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبين التزيد والاختلاق. نعم إن روى المبتدع غير الداعية ما يؤيد بدعته فروايته مردودة لاحتمال التهمة.
أما ما يخل بالمروءة فقسمان:
1-
الصغائر الدالة على الخسة كسرقة شيء حقير كرغيف مثلا.
2-
المباحات التي تسبب الاحتقار، وتذهب بالكرامة، وذلك كالبول في الطريق وفرط المزاح الخارج عن حد الاعتدال.
وقد مثل العلماء في باب الشهادة والرواية لذلك أيضا بالمشي عاري الرأس والأكل على قارعة الطريق.
وفي الحق أن هذه الأمور التي تخل بالمروءة ترجع إلى العرف، والأعراف تختلف في هذا، ولو أخذنا بهذين الأخيرين لتعذر وجود شاهد اليوم فإنه لا يكاد أحد يغطي رأسه اليوم، وكثير من الناس يأكل في الطريق للضرورة لزحمة العمل وضيق الوقت، فمن ثم لا نرى أن هذين يخلان بالمروءة أما البول في الطريق وفرط المزاح فلا يزالان من صفات المستهترين وإنما لا تقبل شهادة ولا رواية من أخل بالمروءة لأن الإخلال بها إما لخبل في العقل أو نقصان في الدين أو لقلة الحياء، وكل ذلك رافع للثقة بقوله.
الفرق بين عدل الرواية والشهادة:
ولا يشترط في عدل الرواية العدد ولا الذكورة ولا الحرية ولا البصر، فيقبل خبر الواحد والمرأة، والعبد، والأعمى، وكذا المحدود في قذف إذا تاب وإن لم تقبل شهادته عند بعض الأئمة1.
1 الذين يقولون: إن المحدود في قذف لا تقبل شهادته وإن تاب هم بعض السلف، وإليه ذهب أبو حنيفة، وجعل الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
…
} عائد إلى الفسق في الآية السابقة لها فحسب، وذهب كثير من السلف إلى قبول شهادة من حد في قذف إذا تاب وإليه ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ذهابا منهم إلى أن الاستثناء في الآية يعود إلى عدم قبول الشهادة والفسق، فبالتوبة يرتفع الأمران.
والفرق بين الرواية والشهادة أن الشهادة اعتبر فيها معانٍ أخرى تتوقف عليها منها: التمييز بين الأشياء، والإشارة إلى المشهود به وعليه. وهذا لا يمكن مع العمى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على مثل الشمس فاشهد".
وأما العبد والمرأة فلأن الشهادة من باب الولاية، فإن الشاهد سيلزم المشهود عليه المشهود به، ولا ولاية لهما على غيرهما لانتقاصها بالأنوثة وانعدامها بالرق، وأما الإخبار بالحديث فليس من باب الولاية؛ لأن الناقل لا يلزم المنقول إليه شيئًا بل الحكم المستفاد من الحديث يلزم المنقول إليه بالتزامه الشريعة.
وأما المحدود في قذف فلأن رد شهادته عند من يرى ذلك من تمام حده وقد ثبت ذلك بالنص، وهو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4، 5] فبعد التوبة لا تقبل شهادته، ويقبل حديثه بناء على عدالته حينئذ لزوال اسم الفسق عنه، وذلك لأنهم يجعلون الاستثناء عائدًا على الأخير وهو الفسق لا على رد الشهادة كما ذكرنا وأيضًا فلو اشترط لقبول الرواية الذكورة أو الحرية أو العدد لتعطلت أحكام كثيرة، فقد رويت أحاديث كثيرة في الأحكام والآداب عن أمهات المؤمنين وغيرهن، وكثير منها مروي عن الموالي والمماليك كعكرمة مولى ابن عباس، ونافع مولى ابن عمر، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي وغيرهم وكثير من الأحاديث مروية بطريق الآحاد ولم ترد إلا من طريق واحد فقط وبذلك ظهرت الحكمة في الفرق بين عدل الرواية وعدل الشهادة.
هل العدالة تتفاوت؟:
جمهور العلماء على أن العدالة لا تقبل الزيادة والنقصان فهي كالإيمان عند من يقول بعدم قبوله ذلك.
والصحيح أن العدالة كالضبط تقبل الزيادة والنقصان والقوة والضعف وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول في باب الترجيح في الأخبار وصرح به العلامة نجم الدين سليمان الطوفي في "شرح الأربعين" حيث قال: "إن مدار الرواية على عدل الراوي وضبطه، فإن كان مبرزا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح، وإن كان دون المبرز فيهما أو في أحدهما لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن"، وهذا هو أجود ما قيل في هذا المكان.
واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا في الراوي، أو يوجد فيه العدالة وحدها أو الضبط وحده، فإن انتفيا فيه لم يقبل حديثه أصلا، وإن اجتمعا فيه قبل وهو الصحيح المعتبر، وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قبل حديثه لعدالته وتوقف فيه لعدم ضبطه حتى يوقف على شاهد منفصل يجبر ما فات من صفة الضبط، وإن وجد فيه الضبط دون العدالة لم يقل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية، ثم إن كل واحد من العدالة والضبط له مراتب: عليا، ووسطى، ودنيا. ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف وهي ظاهرة مما ذكرناه1.
ولعل الذي أوجب خفاء تفاوت العدالة عند بعض العلماء أنهم رأوا أن أئمة الحديث قلما يرجعون بها، وإنما يرجحون بأمور تتعلق بالضبط، وسبب ذلك أنهم رأوا أن الترجيح بزيادة العدالة ربما يوهم الناس أن الراوي الآخر غير عدل فيسوء به ظنهم، ويشكون في سائر ما يرونه.
1 توجيه الفطر إلى علوم الأثر ص30.
وقد فرض أنه عدل ضابط.
وقد زعم بعض العلماء عدم تفاوت الضبط أيضا، وقد رد عليه بعضهم بقوله: لا شك في تحقق تفاوت مراتب العدالة والضبط في العدول الضابطين من السلف والخلف وقد وضح ذلك حتى صار كالبدهي وهذه المسألة لها نظائر لا تحصى قد غلط فيها كثير ممن له موقع عظيم في النفوس فإنهم يذهلون عن بعض الأقسام، فتراهم يقولون: الراوي إما عدل أو غير عدل، وكل منهما إما ضابط أو غير ضابط، غير ملاحظين أن العدالة والضبط مقولان بالتشكيك، فينبغي الانتباه لذلك فإنه ينحل به كثير من المشكلات1.
بم تثبت العدالة؟
1-
تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم، وشاع الثناء عليه بها كفى في عدالته، ولا يحتاج مع ذلك إلى معدل ينص عليها، وذلك كالأئمة مالك والسفيانين: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة. والأوزاعي، والشافعي وأحمد بن حنبل، والليث بن سعد، وشعبة، وابن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمهم الله ومن جرى مجراهم في نياهة الشأن، واستقامة الأمر، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء، وإنما يسأل عمن خفي أمره.
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه فقال: "مثل إسحاق يسأل عنه؟ "، وهي كلمة لها معناها ومغزاها.
وسئل يحيى بن معين عن أبي عبيد القاسم بن سلام فقال: "مثلي يسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يسأل عن الناس".
1 المرجع السابق ص31.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: "الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية إذا لم يكونا مشهورين بالعدالة، والرضا، وكان أمرهما مشكلا ملتبسا، ومجوزا فيهما العدالة وغيرها"، قال: والدليل على ذلك أن العلم بظهور سيرهما، واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة.
2-
وتثبت العدالة أيضا بتنصيص عالمين عليها، أو واحد على الصحيح، ولو بروايته عنه في قول1.
3-
وتوسع الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي في ثبوت العدالة فقال ما توضيحه: "كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه" ووافقه على هذا ابن المواق من المتأخرين لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" ، رواه من طريق العقيلي من رواية معان -بضم الميم- ابن رفاعة السلامي2 عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرفوعا، وقوله هذا غير مرضي والحديث الذي استدل به من الطريق الذي أورده مرسل3، أو معضل4، وإبراهيم الذي أرسله قال فيه ابن القطان:"لا نعرفه البتة" ومعان أيضا وثقه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، قال ابن القطان:"وخفي على أحمد من أمره ما علمه غيره"، وهذا الحديث قد توسع في الكلام عليه الإمام العراقي "في التقييد والإيضاح" بما لا مزيد عليه من ناحية سنده ومتنه.
أما من ناحية سنده فقال: "لقد ورد هذا الحديث مفصلا من رواية
1 تدريب الراوي ص109 ط الأولى.
2 بتخفيف اللام وهو شامي لين الحديث كثير الإرسال توفي بعد سنة مائة وخمسين.
3 المرسل: ما سقط منه الصحابي.
4 المعضل ما سقط منه اثنان أو أكثر على التوالي.
علي، وابن عمر، وابن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوي المرسل
…
إلى آخر ما قال".
وأما من ناحية متنه فقال: "ثم على تقدير ثبوته إنما يصح الاستدلال به لو كان خبرا أي متمحضا للخبرية، ولا يصح على الخبر لوجود من يحمل هذا العلم وهو غير عدل وغير ثقة1 فلم يبق له محمل إلا على الأمر2 ومعناه أنه أمر للثقات بحمل هذا العلم لأن العلم إنما يقبل عنهم، والدليل لذلك أن في بعض طرقه عند ابن أبي حاتم: "ليحمل هذا العلم" بلام الأمر.
أقول: وإذا حملناه على الأمر فقد عرا عن أن يكون دليلا لما ذهب إليه ابن عبد البر ولا يقال: لم لا يصير هذا الحديث حسنا بتعدد الطرق؟
لأنا نقول: إن الضعيف قسمان:
1-
ضعيف ينجبر بتعدد الطرق كما إذا كان ضعفه محتملا.
2-
وضعيف لا ينجبر فيما إذا كان غير ذلك وهذا من الثاني، والله أعلم3.
2-
الشرط الثاني: الضبط: وهو إتقان ما يرويه الراوي بأن يكون متيقظا لما يروي، غير مغفل4 وذلك بأن يكثر صوابه على خطئه وغفلته، حافظا لروايته إن حدث من حفظه ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، عالما بما يحيل المعنى عن المراد إن روى بالمعنى حتى يثق
1 فيلزم عليه الخلف في خبره صلى الله عليه وسلم وهو مستحيل شرعا.
2 أي إنه فعل مضارع يراد به الأمر أي ليحمل.
3 علوم الحديث لابن الصلاح بشرح العراقي 138، 139، ط العاصمة، وتدريب الراوي بشرح تقريب النواوي ص199، 300.
4 بضم الميم وفتح الغين وفتح الفاء المشددة.
المطلع على روايته، والمتتبع لأحواله بأنه أدى الأمانة كما تحملها لم يغير منها شيئا.
والضبط ينقسم إلى قسمين:
1-
ضبط صدر: وهول أن يحفظ ما سمعه في صدره من جهة تحمله إلى وقت أدائه بحيث يتمكن من استحضاره، متى شاء، مع المحافظة على اللفظ إن كان ذاكرا له، مستكملا لشروط الرواية بالمعنى، إن روي بالمعنى.
2-
ضبط كتاب: وهو أن يصون كتابه الذي تحمل الحديث فيه من وقت تحمله إلى وقت أدائه بحيث يأمن عليه من التغيير والتبديل، والزيادة والنقصان، وإذا أعاره إلى أحد لا يعيره إلا لرجل مؤتمن.
وضبط الصدر مجمع على قبول الرواية به، وأما ضبط الكتاب فخالف في قبول الرواية بعض الأئمة الكبار كأبي حنيفة وأبي عبد الله مالك رحمه الله تعالى1.
تفاوت الضبط:
وتتفاوت مراتب الضبط بحسب تفاوت الرواة في الحفظ والتيقظ وعدم الغفلة والسهو إن روى من حفظه، وبمقدار ضبطه لكتابه وصيانته له إن روى من كتابه، وبمقدار علمه بمعنى ما يرويه، وبما يحيل المعنى عن المراد إن روى بالمعنى.
"بم يعرف الضبط؟ ":
ويعرف ضبط الراوي بمقارنة مروياته بمرويات الثقات المتقنين
1 مقدمة ابن الصلاح ص185.
الضابطين وقياسها بمقياس حديثهم، فإن وافقهم في روايتهم غالبا ولو من حيث المعنى فهو ضابط ولا تضر مخالفته لهم النادرة، فإن كثرت مخالفته لهم، وندرت الموافقة اختل ضبطه ولم يحتج بحديثه1.
وإذا أثبت عدالة الراوي وضبطه ثبت أنه ثقة تجب الطمأنينة إليه، وترجح جانب صوابه على جانب خطئه، وليس بعد تحقق الطمأنينة وترجح جانب الصواب من الراوي إلا قبول روايته، وبعد تحقق العدالة والضبط وشروطهما يصير احتمال الكذب أو الغلط من الراوي احتمالا بعيدا جدا إن لم يكن غير ممكن، بل هو لا يعدو أن يكون أمرا جائزا جوازا عقليا، وبالعدالة والضبط يحوز الراوي درجة القبول. ويتهيأ مرويه للنظر فيه، ويتأهل إسناده للبحث عنه.
فإذا قبل الراوي ينظر للمروي هل توفرت فيه شروط القبول؟ وهي: السلامة من الشذوذ ومن العلة، وذلك بألا يخالف الثقة من هو أوثق منه فيما رواه، وبأن يسلم المروي من قادح خفي تظهر السلامة منه، فإذا تخطى المروي هذه العقبة فإنه ينظر للرواية. فإذا تحقق اتصال الإسناد وسلامته من الخلل وانتفى عنه التعليق والإرسال والانقطاع والإعضال والتدليس والاضطراب ومخالفة الأرجح عددا أو صفة كان المتن أهلا للقبول، وترجحت نسبته إلى من عزي إليه ترجحا قويا يكاد يصل عند أهل هذا الفن المتمرسين فيه، والذين اكتسبوا ملكة النقد بمزاولته إلى حد العلم واليقين.
وهكذا يظهر لنا جليا أن الشروط التي وضعها المحدثون للراوي والمروي والرواية يوجب الثقة والطمأنينة إلى الراوي والمروي، وأنها تمثل أدق الأصول في النقد وأوفاها وأرقاها، وأن علم الرواية في الإسلام من مفاخر الأمة الإسلامية.
1 التدريب ص110 ومثل ذلك إدراك استقامة الخط المستقيم بقياسه بالمسطرة في المحسوس فإذا لم تخرج عن استقامة المسطرة كان مستقيما وإلا فلا.