الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ثقة من أنه أخذه عنه، وقد تخونه ذاكرته فينسى أنه سمعه منه. فيحتاط -تورعا- ويذكر أنه وجده في كتابه كما فعل أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله1، وهذا الذي فعله أبو بكر بن أبي شيبة هو غاية الدقة، وغاية الأمانة في الرواية فليعِ الطاعنون في الرواة ذلك.
"النتيجة":
ومما ذكرناه في التحمل والأداء وطرقهما، والألفاظ في التعبير عنها عند الأداء والرواية يتبين لنا جليا أن الأحاديث والسنن حملت عن الرواة من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقت اكتمال التدوين بأقوم طرق الرواية، مع التحقيق والتدقيق البالغين.
وأن الأحاديث والسنن قامت على أصل ثابت قويم متين، وهي الرواية وأن الرواية في الإسلام، ولا سيما في الحديث تعتبر بدعا في بابها لأنها قامت على أساس من الجرح والتعديل اللذين لم يكونا موجودين قبل الإسلام وأن الإسناد المتصل الصحيح يعتبر من خصائص هذه الأمة الإسلامية ولا يوجد في غيرها من الأمم.
وأن على هذه الأمة الإسلامية أن تحافظ على هذه الخصائص حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وما عليها، والحمد لله رب العالمين على هذه النتيجة الموفقة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1 الباعث الحثيث ص153 بالهامش.
"
الإسناد العالي والنازل
":
قدمنا في بحث الرواية منزلة الإسناد في الإسلام، وأن الإسناد الصحيح من خصائص الأمة الإسلامية وهنا نقول:
إن طلب العلو في الإسناد سنة عن السلف كما قال الإمام أحمد وغيره ولذلك استحبت الرحلة، وكانت قدرا مشتركا بين المحدثين قديما
وحديثا، ويستأنس لطلب العلو في الإسناد بما ذكرناه في هذا الكتاب في فصل الرحلة في سبيل العلم وقصة ضمام بن ثعلبة التي ذكرناها في باب التحمل.
والعلو: هو قلة رجال سند الأحاديث بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه بعدد أكثر من الأول، فالأول يسمى عاليا والثاني يسمى نازلا، وقد عظمت رغبة المتأخرين في طلب الإسناد العالي حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه كالحفظ والإتقان والفقه والدراية.
وإنما كان العلو مرغوبا فيه لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ؛ لأنه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثروا كثرت مظان التجويز والاحتمال، وكلما قلوا قلت.
"أقسام العلو" قسم ابن الصلاح وتبعه النووي وغيره العلو إلى خمسة أقسام وإليك هذه الأقسام:
"الأول" وهو أجلها: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح نظيف، فإن كان مع ضعف ففيه صورة العلو لا حقيقته وأما إذا كان فيه بعض الكذابين المتأخرين ممن ادعى سماعا من الصحابة كابن هدبة وأبي الدنيا الأشج ونحوهما، فإنه كالعدم وهذا النوع سماه الحافظ ابن حجر في شرح النخبة "العلو المطلق".
"الثاني" القرب من إمام من أئمة الحديث ذوي الصفات العلية كالحفظ والضبط والفقه مثل شعبة ومالك والثوري والشافعي والبخاري ومسلم ونحوهم، وإن كثر بعده العدد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا والذي بعده سماه الحافظ ابن حجر العلو النسبي.
"الثالث" العلو بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستة أو غيرها من الكتب المعتمدة كمسند أحمد وهو ما كثر اعتناء المتأخرين به من
الموافقة والإبدال والمساواة، والمصافحة.
فالموافقة: هي أن يروي الراوي حديثا في أحد الكتب الستة مثلا بإسناد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب بحيث يجتمع معه في شيخه مع علو هذا الطريق على ما لو رواه من طريق أحد أصحاب هذه الكتب. قال الحافظ ابن حجر: مثاله: روى البخاري عن قتيبة1 عن مالك حديثا. فلو رويناه من طريقه -أي البخاري- كان بيننا وبين قتيبة ثمانية، ولو روينا ذلك الحديث بعينه عن طريق أبي العباس السراج2 لكان بيننا وبين قتيبة فيه سبعة، فقد حصلت لنا الموافقة مع البخاري في شيخه بعينه مع علو الإسناد بدرجة.
"والبدل" هو الوصول إلى شيخ شيخ أحد المصنفين كذلك يعني بعلو درجة أو أكثر عما إذا رواه من طريقة قال الحافظ ابن حجر: كأن يقع لنا ذلك الإسناد بعينه من طريق أخرى -يعني للسراج- إلى القعنبي عن مالك، فيكون القعنبي بدلا فيه عن قتيبة، والقعنبي ليس شيخا للبخاري، فحصلت الموافقة مع شيخ شيخه، وأكثر ما يعتبرون الموافقة والبدل إذا قارنا العلو، وإلا فاسم الموافقة والبدل واقع بدونه بل ومع النزول أيضا كما وقع في كلام الذهبي وغيره، "والمساواة" هي استواء عدد رجال الإسناد من الراوي إلى آخر الإسناد مع رجال إسناد أحد أصحاب هذه الكتب، وهذا كان يوجد قديما، وأما الآن فلا يوجد في حديث بعينه، بل يوجد مطلق العدد كما قال العراقي، وقد ذكر أنه بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أنفس في ثلاثة أحاديث وقد وقع للنسائي حديث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عشرة رواة وهو:"قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن"، قال النسائي: "ما أعلم في الحديث
1 هو ابن سعيد شيخ البخاري ومسلم.
2 بتشديد الراء -إمام جليل ولد سنة 218هـ، وتوفي سنة 313. وكان تلميذ البخاري وروى عنه البخاري ومسلم.
إسنادا أطول من هذا رواه الترمذي بعشرة رواة أيضا".
"والمصافحة" هي أن تقع هذه المساواة لشيخك فيكون ذلك مصافحة، لأن العادة جرت بالمصافحة بين من تلاقيا، وأنت في المثال السابق كأنك لقيت النسائي وصافحته، لأنك لقيت شيخك المساوي له، فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، وهكذا، وهذا العلو تابع للنزول غالبا فلولا نزول النسائي وشبهه لم تعل أنت، وقد يكون مع علوه أيضا فيكون علوا مطلقا.
"الرابع" العلو بتقدم وفاة الراوي، وإن تساويا في العدد، قال النووي: فما أرويه فيه عن ثلاثة عن البيهقي عن الحاكم أعلى مما أرويه عن ثلاثة عن أبي بكر بن خلف عن الحاكم لتقدم وفاة البيهقي عن ابن خلف.
وأما العلو المستفاد من تقدم وفاة الشيخ من غير نظر لشيخ آخر فحده بعضهم1 بمضي خمسين سنة من وفاة الشيخ، وقيل! بثلاثين2.
"الخامس" العلو بتقدم السماع من الشيخ فمن سمع منه متقدما كان أعلى ممن سمع منه بعده، ويدخل كثير منه فيما قبله، ويمتاز عنه بأن يسمع شخصان من شيخ، وسماع أحدهما من ستين سنة، وسماع الآخر من أربعين وتساوي العدد إليهما، فالأول أعلى من الثاني، ويتأكد ذلك في حق من اختلط شيخه أو خرف، وربما كان المتأخر أرجح، بأن يكون تحديثه الأول قبل أن يبلغ درجة الإتقان والضبط، ثم حصل له ذلك بعد، إلا أن هذا علو معنوي.
"النزول":
وهو خمسة أقسام تعرف من أضدادها، وهو مفضول مرغوب فيه على
1 هو الحافظ أحمد بن عمير.
2 هو الحافظ أبو عبد الله بن منده.