الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد مائة سنة من مقالته، وقالوا: إن الحديث غير صحيح لمخالفته للواقع والمشاهدة! ولو أنهم عقلوا وتأملوا لعلموا أن المراد انخرام ذلك القرن أي انتهاء أهله كما بينته رواية البخاري، بل جاء في روايته أيضا أن بعض الناس وهموا وظنوا أن المراد قيام الساعة، ثم تبين لهم أن المراد انتهاء الجيل، والساعة كما نطلق على الساعة الكبرى تطلق على الساعة الخاصة كساعة الأمم أو الأجيال، فرد الحديث بناء على وهم وخطأ في الفهم ليس من قواعد البحث العلمي الصحيح في شيء.
وكلام الأصوليين أيضا يقتضي ما ذكرناه، فإنهم اشترطوا في ثبوت الصحبة بادعائه أن يكون قد عرفت معاصرته للنبي. قال الآمدي في الإحكام:"فلو قال من عاصره: أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه، وحكاهما ابن الحاجب احتمالين من غير ترجيح. قال: ويحتمل أن لا يصدق لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه"1.
1 شرح مقدمة ابن الصلاح ص261.
"
عدالة الصحابة
":
1-
الصحابة كلهم عدول عند جمهور الفقهاء من المحدثين والفقهاء والأصوليين، ومعنى عدالتهم استقامتهم على الدين، وائتمارهم بأوامره وانتهاؤهم عن نواهيه، وأنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور، وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي أو من السهو أو من الغلط، فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم، ولم يخالف في عدالتهم أو عدالة بعضهم إلا شذاذ من المبتدعة وأهل الأهواء لا يعتد بأقوالهم وآرائهم؛ لعدم استنادها إلى برهان وسنعرض لهذه الآراء فيما بعد ومناقشتها.
وعدالة الصحابة ثابتة معلومة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكلام من يعتبر به أئمة الدين والعلم من السلف الصالح ومن جاء بعدهم.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1، والمقصود بالخطاب أولا بالذات هم الصحابة، والوسط هم الخيار العدول إذ الوسط من كل شيء خياره وأعدله، وقال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2، ففي الآية شهادة لهم بالخيرية، وهي خيرية الدين ففيها شهادة لهم بالعدالة، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، الآية3، وقال سبحانه:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، الآية4، وهم أهل بيعة الرضوان وكانوا زهاء ألف وخمسمائة، وقال عز شأنه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} إلى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 5، وقال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 6 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم؛
1 البقرة: 143.
2 آل عمران: 110.
3 التوبة: 100.
4 الفتح: 18.
5 الفتح: 29.
6 الحشر الآية 8-10.
وتشيد بفضلهم ومآثرهم، وصدق إيمانهم وإخلاصهم وسموا أخلاقهم، وأي شيء أكبر شهادة من الله الذي علم ما كان وما يكون؟ بل من أصدق من الله قيلا؟
أما السنة فقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بعد التهم، ودعا إلى معرفة حقوقهم وإنزالهم منازلهم، وعدم إيذائهم والتهجم عليهم لما لهم من الأفضال والفضائل، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" الحديث، وفي الحديث المتفق على صحته عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1، وروي الترمذي وابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه"، وروى البزار في مسنده بسند رجاله موثقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين".
والواقع التاريخي يؤيد هذا الحديث وغيره كل التأييد، وإنما يعلم ذلك حق العلم من اطلع على تاريخ الصحابة وسيرهم، وما كانوا عليه من العلم والعمل والتقوى، والتضحية بالنفس والمال والأهل والولد وطهارة الأخلاق والترفع عن الأهواء والشهوات.
وقد كان كبار الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدون المهديون يعرفون هذا الفضل لكل صحابي، ولو لم يكن له من الصحبة إلا الرؤية، فقد روي
1 قد يقول قائل: إن هذا الحديث أريد به صحبة خاصة؛ لأن النبي قاله لخالد بن الوليد، لما تقاول هو وعبد الرحمن بن عوف، والجواب أنه لا يلزم من ورود الحديث على سبب خاص أنه لا يعم جميع الصحابة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا فإذا نهى الصحابي عن سب الصحابي، فغيره أولى بالنهي وأجدر.
أنه جيء للفاروق عمر رضي الله عنه برجل بدوي قد هجا الأنصار وكانت له صحبة فقال لهم: "لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها لكفيتموه، ولكن له صحبة منه"، فها هو عمر على صرامته في الحق قد توقف عن معاتبته، فضلا عن معاقبته لكونه علم أنه حظي بشرف الصحبة1.
قال الخطيب البغدادي في "كفايته" بعد أن ذكر الكثير من الآيات والأحاديث: على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحالة التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على تعديلهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم كافة أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم
…
ثم روي بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: "إذا رأيت الرجل يتنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة". وما أحكمها من كلمة ألقى بها الله سبحانه على لسان الإمام أبي زرعة رحمه الله وأثابه.
وكذلك عرف للصحابة فضلهم كبار أئمة الفقه والأصول والرواية روى الحافظ البيهقي عن الإمام الشافعي -وهو هو دينا وعقلا وعلما وألمعية- أنه ذكر الصحابة في رسالته القديمة وأثنى عليهم بما هم أهله ثم قال: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"2.
1 مقدمة الإصابة ج1 ص110، مقدمة ابن الصلاح بشرحها ص260.
2 مقدمة ابن الصلاح ص263.
ولا يشكلن عليك ما روي من مراجعة الخليفتين أبي بكر وعمر لبعض الصحابة في بعض مروياتهم وطلبهم شاهدا ثانيا، ومراجعة بعض الصحابة لبعض في القليل النادر، فذلك ليس لتهمة ولا تجريح، وإنما هو زيادة في اليقين والتثبيت في الرواية، وبهذا التحوط وضع الخليفتان الراشدان المنهج السليم في التثبيت والاحتياط لمن يأتي بعدهما، وليس أدل على هذا من قول عمر لأبي موسى الأشعري، وقد طلب منه أن يأتي بمن يشهد معه أنه سمع ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فهل بعد هذا التصريح يتهم الصحابة متهجم، ويتظنن عليهم متظنن؟
2-
"رأي المازري": قال المازري في شرح البرهان: "لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كل من رآه صلى الله عليه وسلم يوما ما، أو زاره يوما ما، أو اجتمع به لفرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعو النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"، وقد رد كلام المازري هذا كثير من العلماء ولم يوافقوا عليه، قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هو قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف، وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد، ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل، والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر1.
3-
القول الثالث أن الصحابة كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا، ويرده ما ذكرنا من الآيات والأحاديث وأقوال جمهور الأئمة.
4-
أنهم عدول إلى وقت وقوع الفتن، وأما بعد ذلك فلا بد من
1 التدريب ص204.
البحث عمن ليس ظاهر العدالة منهم.
5-
قول المعتزلة: إنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليّ بن أبي طالب منهم فإنه ليس بعدل.
6-
ويقرب من هذا القول من قال: كلهم عدول إلا من داخل الفتنة مقاتِلا أو مقاتَلا.
وكل هذه الأقوال ليست بصواب إحسانا للظن بهم، وحملا لهم فيما شجر بينهم من خلاف وحروب على الاجتهاد، قال الحافظ ابن كثير: "وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ، ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ مأجور أيضا، وأما المصيب فله أجران، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وقول المعتزلة: الصحابة عدول إلا من قاتل عليًّا. قول باطل مرذول ومردود، وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن بنته الحسن بن علي، وكان معه على المنبر:"إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه عليّ، واجتمعت الكلمة على معاوية، وسمي "عام الجماعة" وذلك سنة أربعين من الهجرة، فسمى الجميع "مسلمين" وقال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم "مؤمنين" مع الاقتتال، ومن كان من الصحابة مع معاوية؟ يقال: لم يكن في الفريقين مائة من الصحابة، والله أعلم وجميعهم صحابة فهم عدول كلهم"1.
1 الباعث الحثيث لابن كثير ص220.