الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
المُعَلُّ" لا "المعلول" ولا "المُعَلَّل
":
تحقيق التسمية لغة: قال ابن الصلاح: ويسميه أهل الحديث: المعلول وذلك منهم، ومن الفقهاء -في قولهم في باب القياس: العلة والمعلول-مرذول عند أهل العربية واللغة، وتبعه الشيخ محيي الدين النووي فقال: إنه الحق؛ وذلك لأن معلول اسم مفعول من عله بمعنى: سقاه ثانيًا لا بمعنى: المعنى المقصود، وهو العلة ضد الصحة.
وقد تُعُقِّب ما ذكراه بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللغة منهم: قطرب والجوهري في الصحاح والمطرزي في المغرب، وأنه يقال: عُلَّ فلان إذا أصابته علة، وما دام له وجه في العربية، وغلب استعماله في عبارات أهل الفن، فليكن أولى في الاستعمال، وقد أجاب عن ابن الصلاح الحافظ العراقي فقال: لا شك أنه ضعيف، وإن حكاه بعض من صنف في الأفعال كابن القوطية، وقد أنكره غير واحد من أهل اللغة كابن سيده والحريري وغيرهما، وبعد أن ساق كلامهم قال: والأحسن أن يقال: مُعَل بلام واحدة لا معلل، فإن الذي بلامين يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء من تعليل الصبي بالطعام، وأما بلام واحدة، فهو الأكثر في كلام أهل اللغة وفي عبارة أهل الحديث؛ لأن أكثر عبارات أهل الحديث في الفعل أن يقولوا: أعله فلان بكذا، والمفعول منه معل، وتقدم قول صاحب المحكم -هو ابن سيده- أن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل، وقال الجوهري: لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة1، وعلى هذا اخترت أن يكون العنوان:"المعل" لا "المعلول" ولا "المعلل". العلة في اللغة: "المرض الشامل والجمع علل
…
واعتل إذا مرض
…
وأعله جعله ذا علة" المصباح المنير، وفي القاموس المحيط: "العل والعلل محركة الشربة الثانية أو الشرب بعد الشرب تباعًا
…
وعلله بطعام وغيره شغله تعليلًا شغله به
…
والعلة بالكسر المرض عل يعل واعتل، وأعله الله فهو معل وعليل، ولا تقل: معلول، والمتكلمون يقولونها ولست منها على ثلج". فالعلة في الأصل للأجسام، واستعمالها في المعاني مجاز.
والعلة في اصطلاح العلماء: سبب غامض خفي قادح في الحديث مع
1 شرح العراقي على مقدمة ابن الصلاح ص96، 97.
أن الظاهر السلامة منه فالحديث المُعَلُّ، هو الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها.
"علم العلل": وهذا الفن من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهمًا ثاقبًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، وأحمد بن حنبل والبخاري، والدارقطني وأبي حاتم، وأبي زرعة وأمثالهم.
والطريق إلى معرفة العلل جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته، وفي ضبطهم وإتقانهم، فيقع في نفس العالم العارف بهذا الشأن أن الحديث معلول، فيغلب على ظنه ذلك، فيحكم بعدم صحته، أو يتردد فيتوقف فيه.
وقد تقصر عبارة المعلل الناقد عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي الماهر في نقد الدراهم والدنانير، والطبيب الحاذق المتمرس الذي يدرك المرض بمجرد النظر إلى المريض، وقد يعجزان عن إبداء سبب ظاهري. قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي:"معرفة علل الحديث إلهام لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك"، وقيل له أيضا: إنك تقول للشيء هذا صحيح، وهذا لا يثبت، فعمن تقول ذلك؟ قال: أرأيت لو أتيت الناقد، فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد وهذا بهرج1، أكنت تسأل عمن ذلك؟ أم تسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبرة، وسئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن
1 بهرج على وزن جعفر، أي رديء مغشوش.
وارة1 فتسأله عنه، فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم2 فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافا فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة، فاعلم حقيقة هذا العلم ففعل الرجل ذلك، فاتفقت كلمتهم فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام3.
"بم تكون العلة؟ ": والعلة قد تكون بالإرسال في الموصول، أو الوقف في المرفوع أو بدخول حديث في حديث، أو وهم واهم أو غير ذلك.
"العلة تكون في السند والمتن": والعلة قد تكون في سند الحديث، وهو الأكثر، وقد تكون في متنه، وما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن معا كما في التعليل بالإرسال في الموصول، والوقف في المرفوع، وقد تقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن. مثال ما وقعت العلة في سنده من غير قدح في المتن:
ما رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار" الحديث. فهذا الإسناد متصل بنقل العدل عن العدل، وهو معلل والعلة في قوله: عمرو بن دينار، وإنما هو عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه فوهم يعلى بن عبيد، فذكر عمرو بن دينار بدل عبد الله، والمتن على كل حال صحيح؛ لأن كليهما ثقة.
"مثال العلة في المتن": الحديث الذي انفرد مسلم بإخراجه في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم بسنده عن أنس بن مالك أنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة
1 هو الحافظ محمد بن مسلم بن وارة.
2 هو الحافظ أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
3 شرح نخبة الفكر ص33، وتدريب الراوي ص79 ط القديمة.
ولا في آخرها.
قال ابن الصلاح: فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح، ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له ففهم من قوله:"كانوا يستفتحون بالحمد لله" أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه أن السورة التي كانوا يستفتحون بها من السور هي الفاتحة وليس فيه تعرض لذكر البسملة، ومما يدل على أن أنسا لم يرد نفي البسملة، وأن الذي زاد ذلك في آخر الحديث روي بالمعنى فأخطأ ما صح عنه أن أبا سلمة سأله: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما حفظته، وما سألني عنه أحد قبلك. وقد أطال الحافظ العراقي والحافظ السيوطي الكلام في تعليل حديث مسلم هذا فمن أراد الاستقصاء فليرجع إلى ما ذكراه1.
"التوسع في إطلاق اسم العلة": قال ابن الصلاح: وقد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكبير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمى الترمذي النسخ علة فإن أراد أنه علة في العمل بالحديث فصحيح أو في صحته فلا؛ لأن في الصحيح أحاديث كثيرة منسوخة، وأطلق أبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" العلة على مخالفة لا تقدح في صحة الحديث كإرسال ما وصله الثقة الضابط، حتى قال: من الصحيح صحيح معل كما
1 شرح العراقي على المقدمة ص98، 103، تدريب الراوي ص90، 91 ط القديمة.