الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
التحمل والأداء وشروطهما
":
الرواية لا بد فيها من تحمل وأداء فما هو التحمل؟ وما هو الأداء؟
التحمل: هو نقل الحديث عن الغير بأي طريق من طرق التحمل الصحيحة المعتبر وهذا الغير يسمى في عرف المحدثين شيخا.
شرطه: لا يشترط في التحمل إلا التمييز والضبط لما يروي ويسمع، وحدد المحدثون أول زمن يصح فيه السماع للصغير بخمس سنين، وعلى هذا استقر العمل بين أهل الحديث وأئمته، واحتجوا لهذا بما رواه البخاري في صحيحه عن محمود بن الربيع قال:"عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم حجة حجها في وجهي من دلو، وأنا ابن خمس سنين" وأما من دون هذا السن فيقولون: له حضور والصواب: أن العبرة بالتمييز والضبط، فقد يكون ابن أربع وهو مميز ضابط وقد يكون ابن سبع وهو ليس كذلك1.
وعلى هذا يجوز التحمل من الصبي المميز، ولكنه لا يؤدي إلا بعد البلوغ كحديث محمود بن الربيع هذا ويجوز التحمل من الكافر ولكنه لا يؤدي إلا بعد الإسلام، وذلك كقصة أبي سفيان بن حرب مع هرقل حينما استدعاه لما بلغه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام وسؤاله عنه2 فقد تحملها وهو كافر، ولكنه أداها بعد إسلامه.
الأداء: الأداء هو رواية الحديث للغير، وهذا الغير يعرف عنه المحدثين بطالب الحديث.
شروطه: وأما شروط الأداء فهي العدالة والضبط بأن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة حافظا لحديثه إن أدى من صدره ولكتابه إن حدث منه عالما بمدلولات الألفاظ. وبما
1 النخبة وشرحها.
2 صحيح البخاري باب، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يحيل -يغير- المعاني إن روي بالمعنى على ما فصلنا في شروط الراوي.
"طرق التحمل والأداء":
للتحمل طرق وكيفيات مخصوصة، وهي على ما ذكرها ابن الصلاح وغيره ثمانية، وعلى من تحمل بطريق من هذه الطرق أن يعبر بصيغة تدل على ذلك الطريق الذي تحمل به ويسميها المحدثون "صيغ الأداء".
الطريق الأول: السماع من لفظ الشيخ بأن يكون الشيخ يقرأ الحديث والطالب يستمع، وسواء في هذا أكان الشيخ يحدث من حفظه أم من كتابه وسواء أكان مع إملاء أم من غير إملاء، وهذا القسم أعلى أنواع التحمل عند الجمهور سلفا وخلفا، ويجوز السماع من وراء حجاب إذا عرف صوته، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على سماع صوت ابن أم مكتوم في الصيام في حديث "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، رواه البخاري ومسلم مع غيبة شخصه عمن يسمعه، وأيضا فقد كان الصحابة والتابعون يروون عن أمهات المؤمنين من وراء حجاب.
صيغ الأداء: وصيغ الأداء عن هذا الطريق: سمعت أو سمعنا، حدثني أو حدثنا1 أخبرني أو أخبرنا سماعا منه، أنبأني أو أنبأنا سماعا منه. أما إطلاق الإخبار والإنباء فالبعض يجيزه والبعض لا يجيزه كما ستعلم عن كثب، قال الخطيب البغدادي: "أرفع العبارات سمعت ثم حدثنا وحدثني، فإنه لا يكاد أحد يقول: سمعت في الإجازة والمكاتبة.
1 سمعت وحدثني إن كان وحده، وسمعنا وحدثنا إن كان معه غيره. فإن شك اقتصر على حدثني لأن الأصل عدم الغير، وقيل العكس لأنه أدون مرتبة، لأن في حدثني إشعار بأنه قصده بالتحديث بخلاف حدثنا وهذا يدل على دقة الحديث في تفرقتهم بين الألفاظ.
ولا في تدليس ما لم يسمعه بخلاف حدثنا، فإن بعض أهل العلم كان يستعملها في الإجازة، ثم أخبرنا وأنبأنا".
وهذا كان قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشيخ وأنبأنا بالإجازة منه.
وقال ابن الصلاح "حدثنا وأخبرنا أرفع من جهة أخرى، إذ ليس في سمعت دلالة على أن الشيخ رواه الحديث، أي قصده بالرواية بخلافها1 وهو اختلاف في الأنظار تبعا للاختلاف في الاعتبار.
الطريق الثاني:
"القراءة على الشيخ" وأكثر المحدثين يسمونها عرضا من حيث أن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ. وسواء في هذا النوع أن يكون الطالب هو القارئ، أم كان القارئ غيره وهو يسمع، وسواء قرأ من كتاب أو من حفظه، وسواء أكان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه أو لا يحفظ ولكن يمسك أصله2 هو أو ثقة غيره.
زاد العراقي: وكذا إن كان ثقة من السامعين يحفظ ما قرئ وهو مستمع غير غافل وقال الحافظ ابن حجر: ينبغي ترجيح الإمساك في الصور كلها على الحفظ لأنه خوان ولا يشترط أن يقر الشيخ بما قرئ عليه نطقا بل يكفي سكوته في إقراره عليه عند الجمهور، وخالف في هذا بعض الشافعية والظاهرية وقالوا: لا بد من نطقه والصحيح الأول.
"الرواية بهذا الطريق" والرواية عن الشيخ بالقراءة عليه رواية صحيحة بلا خلاف في جميع ذلك إلا ما حكي عن بعض السلف من العلماء المتشددين كوكيع، وأبي عاصم النبيل، ومحمد بن سلام.
1 تدريب الراوي ص129، 130.
2 كتاب الشيخ.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح "وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزئ وإنما يقول بذلك بعض المتشددين من أهل العراق"1 وحكي القول بصحتها عن الجماهير من الصحابة والتابعين ومنهم الفقهاء السبعة ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم.
الدليل عليها: وقد استدل الحميدي ثم البخاري على ذلك بحديث ضمام بن ثعلبة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أنا سائلك فمشدد عليك، فلا تجد عليّ في نفسك فقال له:"سل عما بدا لك" فقال: أسألك بربك ورب من قبلك: آلله أرسلك إلى الخلق كلهم؟ قال: "اللهم نعم" ، ثم سأله عن شرائع الإسلام من صلاة وصيام وزكاة فلما فرغ، قال: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي. فلما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه فأبلغهم فأجازوه أي قبلوا منه. رواه البخاري ومسلم2 وأسند البيهقي في المدخل عن البخاري قال: قال أبو سعيد الحداد عندي خبر النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم فقيل له. وما هو؟ قال قصة ضمام: آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم" وقد عقد البخاري لذلك بابًا في صحيحه من كتاب العلم وهو "باب القراءة والعرض على المحدث".
منزلتها مما قبلها: وقد اختلف في مرتبتها بالنسبة لما قبلها، فقيل: هما سواء وحكى هذا عن مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة ومعظم علماء الحجاز والكوفة، والبخاري وغيرهم.
وقيل: إنها أعلى من السماع، وحكى هذا عن الإمام أبي حنيفة وغيره، ورواية عن الإمام مالك، واعتلوا بأن الشيخ لو غلط لم يتهيأ للطالب الرد عليه بخلاف ما لو غلط الطالب فإن الشيخ يرد عليه.
1 فتح الباري ج1 ص122.
2 البخاري كتاب العلم، باب القراءة والعرض على المحدث، مسلم كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام.
وقيل: إنها تلي السماع في المرتبة وهو الصحيح، وعليه جمهور علماء أهل المشرق وذلك لأن الشيخ وهو يقرأ يكون متيقظا لما يقرأ، ويبعد عليه السهو بخلافه وهو يسمع فقد يسهو أو يغفل.
صيغ الأداء: وصيغ الأداء عن هذا الطريق: قرأت على فلان أو قرئ على فلان وأنا أسمع أو "أخبرني بقراءتي" أو "أخبرنا قراءة عليه وأنا أسمع" أو "حدثني بقراءتي عليه" أو "حدثنا قراءة عليه وأنا أسمع".
وأما إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" فمنع منه جماعة منهم أحمد بن حنبل والنسائي، وجوزهما طائفة، وهو مذهب الزهري ومالك والبخاري وجماعات من المحدثين ومعظم الحجازيين والكوفيين، وقد عقد البخاري لذلك كتابا في صحيحه من كتاب العلم فقال:"باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا" ذهابا منه إلى أنهما بمعنى، واستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟
…
" الحديث. وفي رواية بلفظ "أخبروني" وفي رواية الإسماعيلي "أنبئوني".
وفصلت فرقة فأجازت إطلاق "أخبرنا" ومنعت من إطلاق "حدثنا" وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج، وجمهور أهل المشرق وقيل إنه مذهب أكثر المحدثين، وصار الفرق هو الشائع الغالب على أهل الحديث، وادعاء الفرق بينهما من حديث اللغة تكلف شديد، لكن لما تقرر الاصطلاح صار ذلك حقيقة عرفية، فتقدم على الحقيقة اللغوية1 وأصحاب هذا المذهب يخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه ثم أحدث أتباعهم تفصيلا آخر: فمن سمع وحده من الشيخ قال: "حدثني" ومن سمع مع غيره قال: "حدثنا"
1 فتح الباري ج1 ص117 إلى 119، والتدريب ص130-133.