الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخير، ومهما يكن من شيء فقد انقضى العصر النبوي والذين كانوا يكتبون الأحاديث من الصحابة أقل ممن كانوا لا يكتبون.
"
الحديث في عهد الصحابة وكبار التابعين
":
ما إن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاوز الرفيق الأعلى حتى كثر عدد من كان يكتب من الصحابة، إذ لم يعد هناك تحرج من الكتابة، لأن معظم الاعتبارات التي ذكرناها في توجيه النهي عن الكتابة لم تعد موجودة، فالقرآن كله قد كتب وحفظه الجم الغفير من الصحابة. وانقطع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن الأمية زالت عن كثير من الصحابة، لدعوة الإسلام إلى إزالة الأمية والتعلم.
وقد كان من الأعمال البارعة الرشيدة ما وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم من أساس صالح عقب غزوة بدر، فقد قبل ممن لا يقدر على دفع الفداء من الأسارى وكان يعرف القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من صبيان المدينة المسلمين القراءة والكتابة1.
وقد كان من الحوافز على الكتابة ما قام به الخليفة الأول أبو بكر الصديق من كتابة الأحاديث والسنن المتعلقة بالزكاة والصدقات لعماله. روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين2: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط
…
" الحديث3، وفي هذه الكتب بين أنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم.
1 السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة للمؤلف ج2 ص138 ط ثانية.
2 إقليم مشهور معروف يشتمل على مدن معروفة قاعدتها: هجر، وينطق به هكذا بلفظ التثنية، والنسبة إليها بحراني.
3 صحيح البخاري: باب زكاة الغنم وباب زكاة الإبل.
"هم الفاروق رضي الله عنه أن يكتب الأحاديث":
وقد هم الفاروق عمر رضي الله عنه أن يجمع الأحاديث ويقيدها في كتب فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله في ذلك شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال:"إني كنت أردت أن أكتب السنن1 وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا". رواه البيهقي في المدخل2.
فدل هذا على أن جمهور الصحابة كان رأيهم الكتابة، وأن من تيسرت له الكتابة منهم كانوا يكتبون، فقد شاعت القراءة والكتابة في هذا العصر عن ذي قبل، وما كانت تحدث مثل هذه القصة دون أن يكون لها أثر في حفز نفوس الكثيرين إلى كتابة السنن وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قصة سماعه حديثا مرويا عن عتبان بن مالك رضي الله عنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه لا يدخل النار. قال أنس:"فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني: اكتبه فكتبه"2.
وروى الحاكم وغيره من حديث أنس موقوفا "قيدوا العلم بالكتاب"3 وكان ممن نشط وشمر عن ساعد الجد في كتابة الحديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
روى الدارمي والحارث في مسنديهما بسنديهما عن ابن عباس قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل
1 أي يدونها تدوينا عاما وليته رضي الله عنه فعل.
2 التدريب ص151.
3 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص244.
أصحاب1 رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير قال: واعجبا لك!! أترى الناس يفتقرون إليك؟ قال: فترك ذلك -يعني هذا الرجل- قال ابن عباس. وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل منهم فآتي بابه، وهو قائل2 فأتوسد3 ردائي بسفي الريح عليّ من التراب فيخرج فيراني فيقول: يابن عم رسول الله ما حاجتك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟! فأقول: لا أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث، فعاش الأنصاري حتى رآني. وقد اجتمع الناس حولي يسألوني. فقال: هذا الفتى كان أعقل مني".
ورويا بسنديهما عن أبي رافع4 "كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع النبي يوم كذا؟ ومع ابن عباس من يكتب ما يقول".
"التابعون":
ثم جاء التابعون رضوان الله عليهم، وقد تهيأ لهم من كتابة الأحاديث والسنن ما لم يتهيأ لغيرهم، فأكثروا من التقييد والكتابة فقد تمت معظم الفتوحات، وسكن الصحابة الذين حملوا الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمصار الإسلامية، وأصبح هناك تفرغ للعلم والرواية والفتوى، وتكونت المدارس العلمية في الحجاز وغير الحجاز، وأضحى لهذه المدارس أساتذة وأئمة، وطلاب كثيرون، وأصبح للعلم ولا سيما علم القرآن والسنة في المجتمع الإسلامي منزلة تفوق منزلة الإمارة، بل والخلافة، فلا عجب أن أقبل التابعون على العلم بنهم غريب، وكان لرواية الأحاديث والسنن من ذلك حظ كبير.
1 يريد كبار الصحابة الذين سمعوا ما لم يسمعه. ورأوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يره.
2 مستريح وقت القيلولة وهي اشتداد الحر.
3 أجعله كالوسادة وأنام عليه.
4 لعله أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة الرجل، فإذا نزل نسخه.
وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد1 عن أبيه قال: "كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما يسمع، فلما احتج إليه علمت أنه أعلم الناس".
وروى هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في عهد يزيد بن معاوية وكان يقول: "لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي" وطبعي أنه كان في هذه الكتب الكثير من الحديث والتفسير والفقه ونحوها. وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: "كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارا، وأخفي عنه. قال: فدعا بقضاء عليٍّ فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليٌّ إلا أن يكون ضل"2.
التثبت في عهد الصحابة:
وعلى سنة التثبت في الرواية التي أشار إليها القرآن، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم سار الخلفاء الراشدون المهديون. روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث. فقال:"ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا"، ثم سأل الناس، فقام المغيرة بن شعبة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال له الصديق: "هل معك أحد" فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه3.
1 هو عبد الله بن ذكوان الأموي المعروف بأبي الزناد ثقة فقيه توفي سنة ثلاثين ومائة.
2 المراد إخفاء ما لو أظهر من الحديث لترتب عليه "قيل وقال" من النواضب والخوارج والرافضة ونحوهم ومراده بقوله: ما قضي بهذا إلا أن يكون ضل أنه لم يقض به لأنه لم يضل وهو من الأساليب البليغة في نفي الشيء.
3 تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص4.
وعلى هذه السنة سار الفاروق عمر رضي الله عنه فقد نهج منهج الصديق في تثبته بل وزاد عليه. روى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن أبا موسى -يعني الأشعري- سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له، فرجع. فأرسل عمر في إثره فقال له: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاء أبو موسى منتقعا لونه، ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: هل سمعه أحد منكم؟ قلنا: كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا حتى أتى عمر فأخبره1 وروي أنه قال لأبي موسى:"إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أردت أن أستثبت" وقال عمر الفاروق: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع" رواه مسلم في مقدمة صحيحه2 وهذا أبو الحسن علي رضي الله عنه يقول: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني به، وكان إذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف صدقته" ويقول: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذب الله ورسوله".
قال الإمام الذهبي: "فقد زجر الإمام رضي الله عنه عن رواية المنكر وحث على التحديث بالمشهور وهذا أصل كبير في الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث في الفضائل، والعقائد، والرقائق، ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان في معرفة الرجال والله أعلم"3.
وقد اتبع هذا المنهج أيضا سائر الصحابة المكثر منهم والمقل، فهذا عبد الله بن مسعود أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم هديا ودلا وسمتا
1 المرجع السابق ص6.
2 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص75.
3 تذكرة الحفاظ ص13.
يقول: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع" رواه مسلم. وهي دعوة صادقة إلى التثبث، فإن المرء إذا حدث بكل ما سمع فإنه يقع في الكذب لا محالة إذ هو يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، وقال: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وهو دعوة إلى تحري الصدق فيما ينقل وتخير ما يليق بحال السامعين وهذا أسس من أسس التربية الصحيحة التي سبق إليها الإسلام وعمل بها الصحابة الأجلاء الكرام.
ولم تكن مراجعة بعض الخلفاء وغيرهم لبعض الصحابة وطلبهم راويا أو استحلافهم عند الرواية طعنا في عدالتهم ولا تكذيبا لهم. كما هرف به بعض أعداء الإسلام الحاقدين على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ذلك كان على سبيل التحوط للرواية، والتثبت من المرويات، ولتكون سنة متبعة لمن يأتي بعدهم، وليس أدل على هذا من قول الفاروق -وهو من هو في الجهر بالحق وعدم المداهنة- لسيدنا أبي موسى الأشعري:"إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أردت أن أستثبت"!! فكيف يتقول متقول بعد هذا؟!
وكذلك لم يكن إكثار المكثرين من الصحابة في الرواية تساهلا في المروايات، أو اختلافا من عند أنفسهم كما زعم بعض المتخرصين بالباطل، وإنما كان ذلك لعوامل أخرى كطول العمر، والتفرغ للعلم والرواية وقلة الاشتغال بأمور الدنيا، وسكنى الأمصار التي يقصدها العلماء وطالبو الحديث.
التثبت في عصر التابعين ومن بعدهم:
وكذلك سار على سنة التثبت في الرواية والتدقيق فيها العلماء