الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصواب، وقول الجمهور، وفضل بعضهم النزول، واحتج له بأن الإسناد كلما زاد عدده زاد الاجتهاد فيه، وهذا يقتضي المشقة فيعظم الأجر، وهو مذهب ضعيف الحجة؛ لأنه ترجيح بأمر أجنبي عما يتعلق بالتصحيح، والتضعيف، وهو المعنى المقصود من الرواية، فإن كان في النزول مزلة ليست في العلو كأن يكون رجاله أوثق أو أحفظ أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع، وفي العالي حضور أو إجازة ونحوها فلا شك أن النزول حينئذ أولى وأفضل، وقال وكيع لأصحابه: الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله أم سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقالوا: الأعمش عن أبي وائل أقرب فقال: الأعمش شيخ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه.
وقال ابن المبارك ليس جودة الحديث قرب الإسناد بل جودة الحديث صحة الرجال، وقال شيخ الإسلام ابن حجر "ولابن حبان تفصيل حسن، وهو أن النظر إن كان للسند فالشيوخ أولى، وإن كان للمتن فالفقهاء أولى".
"
مسائل تتعلق بكتابة الحديث وآدابها
":
كما عني المحدثون بالحديث من حيث تحمله وحفظه وضبطه وتدوينه، عنوا به من حيث كيفية كتابته، وتفسيره، وضبط حروفه، وشكله، وإلحاق سقطه والتنبيه إلى ما في بعض رواياته من خطأ أوشك إلى غير ذلك مما يعرف بآداب كتابته وإليك أهم هذه المسائل.
"المسألة الأولى" على كاتب الحديث صرف الهمة إلى ضبطه، وتحقيقه من جهة الشكل، والنقط بحيث يؤمن معها اللبس، والاشتباه ليؤديه كما سمعه.
والشكل! تقييد حركات الإعراب والحروف.
والنقط: أن يبين الباء، من التاء من الثاء، والحاء من الخاء، والمهمل من النقط من غير المهمل، قال الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها:"نور الكتاب إعجامه" أي نقطه، وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح:"إعجام المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله"1 "وكثيرا ما يعتمد الواثق على ذهنه، وذلك وخيم العاقبة، فإنه الإنسان معرض للنسيان، وأول ناس أول الناس"2.
ومن اللطائف في هذا ما قيل: إن النصارى كفروا بلفظة أخطئوا في إعجامها وشكلها قال الله في الإنجيل لعيسى: "أنت نبي ولدتك من البتول"3 فصحفوها وقالوا: "أنت بني ولدتك" بتخفيف اللام.
وقيل أيضا: أول فتنة في الإسلام سببها ذلك وهي الفتنة التي حدثت في عهد ذي النورين عثمان رضي الله عنه فإنه كتب للذي أرسله أميرا إلى مصر: "إذا جاءكم فاقبلوه"4 فصحفوها إلى "فاقتلوه"5 فجرى ما جرى.
ومن الفكاهة ما قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامل6 له ببلد: "أن أحص المخنثين" أي عدهم فصحفها فقرأها بالخاء المعجمة، فخصاهم وجمهور العلماء على أنه لا ينبغي أن يعتني بتقييد الواضح الذي لا يشكل ولقد أحسن من قال:"إنما يُشكَل ما يشكِل"7 ومنهم من قال:
1 في المصباح المنير: "وشكلت الكتاب شكلا أعلمته بعلامات الإعراب، وأشكل الأمر بالألف التبس، وفيه أيضا: "استعجم الكلام علينا مثل استبهم، وأعجمت الحرف -بالألف- أزلت عجمته بما يميزه عن غيره بنقط وشكل فالهمزة للسلب" ولكن الاصطلاح خصص الإعجام بالنقط، والشكل بحركات الحروف.
2 هو آدم عليه الصلاة والسلام.
3 ولدتك: بتشديد اللام. والبتول: هي السيدة مريم العذراء.
4 بالقاف، والباء الموحدة.
5 بالقاف والتاء المثناة من فوق.
6 أي أمير.
7 الأولى بالبناء للمفعول، والثانية بالبناء للفاعل مضارع أشكل الرباعي.
يشكل الجميع وصوبه الإمام القاضي عياض، ولا سيما للمبتدئ وغير المتجر في العلم فإنه لا يميز ما يشكل مما لا يشكل، وقد تكون الكلمة غير مشكلة عند شخص، ومشكلة عند شخص آخر وينبغي أن يكون اعتناؤه بضبط الأعلام أكثر، لأنها لا تدرك بالمعنى، ولا يستدل عليها بما قبلها، ولا بما بعدها، ويستحب ضبط الكلمة المشكلة التي يخشى تصحيفها، أو الخطأ فيها في أصل الكتاب، ثم يضبطها قبالة1 ذلك في الحاشية، فإن ذلك أبلغ؛ لأن المضبوط في نفس الأسطر ربما داخله نقط غيره وشكله مما فوقه أو تحته، لا سيما عند ضيق الأسطر، ودقة الكتابة، والأحسن في الضبط في الحاشية أن يفرق حروف الكلمة المشكلة، لأن بعض الحروف الموصولة يشتبه بغيره كالنون، والياء التحتية مثلا، قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح"2:"من عادة المتقين أن يبالغوا في إيضاح المشكل فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفا حرفا" ويوجد هذا في المخطوطات القديمة.
ويستحب تحقيق الخط وتوضيحه دون مشق وتعليق3 روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: "شر الكتابة المشق، وشر القراءة الهذرمة4، وأجود الخط أبينه" ويكره تدقيق الخط لأنه لا ينتفع به من في نظره ضعف، وربما تصحف عليه، قال الإمام أحمد بن حنبل لابن عمه حنبل بن إسحاق، وقد رآه يكتب خطا دقيقا:"لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك" نعم، إن كان هناك ضرورة من ضيق الورق وتخفيف الحمل في السفر ونحوهما فلا بأس.
1 أي إزاء.
2 هو الإمام تقي الدين محمد بن علي بن دقيق العيد المتوفى في سنة اثنتين وسبعمائة وهو من كبار علماء مصر، وله كتاب في علوم الحديث يسمى "الاقتراح".
3 المشق: الإسراع في الكتابة، لأنه وسيلة للخطأ والتصحيف، والتعليق: خلط الحروف التي ينبغي تفريقها، وهو أيضا مظنة التصحيف والخطأ.
4 الإسراع بحيث تخفى بعض الحروف، ولا تأخذ حقها في النطق.
"المسألة الثانية" ينبغي ضبط الحروف المهملة لبيان إهمالها، كما تنقط المعجمة؛ لأن بعض القراء قد يتصحف عليه الحرف المهمل فيظنه معجما، وأن الكاتب نسي نقطه.
قال السيوطي: لم يتعرض أهل الفن -أي فن علوم الحديث- للكاف واللام، وذكرها أصحاب التصانيف في الخط، فالكاف إذا لم تكتب مبسوطة، يعني هكذا "كـ" يكتب في بطنها كاف صغيرة أو همزة، واللام يكتب في بطنها "لام" أي هذه الكلمة بحروفها لا صورة لام هكذا "ل" ويوجد ذلك في خط الأدباء، والهاء آخر الكلمة يكتب عليها هذا مشقوقة تميزها من هاء التأنيث التي في الصفات ونحوها.
والهمزة المكسورة: "أِ" تكتب فوق الألف والكسرة أسفلها، يعني هكذا "أِ"، أم كلاهما أسفل هكذا "إِ" اصطلاحان للكتابة والثاني
1 لم يذكر الحاء المهملة لوضوحها والعلم بها فإنها لا تدخل في هذا كما ذكره البلقيني.
أوضح، وأما الهمزة المفتوحة في أول الكلمة فتكتب فوق الألف اتفاقًا هكذا "أَ".
وإذا كان له اصطلاح خاص في كتابه فلينبه إليه أول الكتاب أو آخره، حتى لا يوقع غيره في حيرة في فهم مراده، وينبغي أنه يعتني لضبط مختلف الروايات وتمييزها، والإشارة في الحاشية إلى ما ليس في صلب كتابه من زيادات أو مغايرة معينًا في كل ذلك من رواه لا رامزًا له، إلا أن يبين المراد بالرمز أول الكتاب أو آخره.
"المسألة الثالثة" ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دائرة هكذا "هـ" والمستحب أن تكون غفلا1، فإذا قابل كتابه نقط وسط الدائرة، أو خط في وسطها خطا ليعلم أين وصل في المقابلة؟
ويكره في مثل: عبد الله بن فلان، وعبد الرحمن بن فلان، وكذا كل اسم مضاف إلى الله تبارك وتعالى كتابه "عبد" آخر السطر، واسم "الله" مع "ابن فلان" أول السطر الآخر، وأوجب اجتناب مثل ذلك ابن بطة، والخطيب، ووافق ابن دقيق العيد على أن ذلك مكروه لا حرام.
أقول: وما قاله تقي الدين ابن دقيق العيد متجه، لأن العبرة بالنية والقصد، لا بالكتابة والخط.
وكذا يكره أن يكتب كلمة "رسول" آخر السطر، و"الله صلى الله عليه وسلم" أوله وكذا ما أشبهه من الموهمات والمستشنعات كان يكتب "قاتل" من قوله صلى الله عليه وسلم:"قاتل ابن صفية في النار" في آخر السطر و"ابن صفية في النار" في أوله السطر الآخر، أو يكتب "فقال" من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث شارب الخمر: فقال عمر: "أخزاه الله ما أكثر ما يؤتي به"، آخر السطر، وعمر وما بعده أول السطر التالي.
ولا يكره فصل المتضايفين إذا لم يكن فيه مثل ذلك مثل:
1 يعني ليس في وسطه شيء.
سبحان الله العظيم، بأن يكتب "سبحان" آخر السطر، ويكتب: الله العظيم أول السطر التالي مع أن جمعهما في سطر واحد أولى، وكل هذا يدل على غاية التحوط والبعد عن الإيهام، ورعاية غاية الذوق وشفافية الحس من المحدثين.
"المسألة الرابعة" ينبغي المحافظ على الثناء على الله سبحانه بما هو أهله كعز وجل وتبارك وتعالى، ونحوه مثل جل جلاله، أو تقدست ذاته، أو تقدست صفاته وإن لم يكن في الأصل لأنه يقصد به الثناء لا الرواية.
وكذا ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكر سواء أذكر باسمه أم بصفته، ولا يسأم من تكراره فإن من أغفله حرم حظا عظيما وثوابا جزيلا فقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن أولى الناس بي أكثرهم عليّ صلاة" صححه ابن حبان: إنهم أهل الحديث لكثرة ما يتكرر ذكره في الرواية فيصلون عليه. أقول: والأحاديث الصحيحة والحسنة في فضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر متكاثرة1 وأما الحديث الذي يورده البعض في هذا المقام وهو حديث: "من صلى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب"، فقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع وعارضه السيوطي فقال: هو وإن كان ضعيفا فإن له طرقا تخرجه عن الوضع وتقتضي أن له أصلا في الجملة، وكذلك الحديث الذي يذكر في هذا عن أنس يرفعه:"إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث وبأيديهم المحابر فيرسل الله إليهم جبريل، فيسألهم: من أنتم؟ وهو أعلم فيقولون: أصحاب الحديث، فيقول: ادخلوا الجنة طالما كنتم تصلون على نبيي في دار الدنيا" وهذا الحديث رواه الخطيب، وقال: إنه موضوع والحمل فيه على الرقي قال:
1 انظر كتاب جلاء الأفهام.
السيوطي: له طريق غير هذه عن أنس أوردها الديلمي في مسند الفردوس وقد ذكرتها في "مختصر الموضوعات"1.
والحق أن في الأحاديث الصحيحة والحسنة ما يغني عن أحاديث مختلف فيه بالحكم بالوضع وعدمه، والإمام السيوطي يركب كل صعب وذلول في الحكم على بعض الأحاديث الموضوعة وبيان أن لها أصلا وينبغي أن يجمع عند ذكره صلى الله عليه وسلم بين الصلاة عليه بلسانه، وكتابة ذلك ببيانه.
ثم إن كانت الصلاة والتسليم في الأصل الذي ينقل منه كتب ذلك بالاتفاق، فإن لم يكن بالأصل ففي كتابة ذلك خلاف: فالإمام أحمد بن حنبل لا يرى كتابه ذلك وكان يكتفي بالصلاة والتسليم نطقا، ومال إلى رأيه العلامة ابن دقيق العيد فقال:"ينبغي أن يتبع الأصول والروايات" وخالف الإمام أحمد غيره من المتقدمين فقالوا: لا يتقيد بالأصل بل يكتبه خطا، ويتلفظ به نطقا، لأنه دعاء لا كلام يرويه، واختار بعض المتأخرين ما ذهب إليه الإمام أحمد محافظة على الأصول القديمة، ومراعاة لغاية الدقة والأمانة في النقل"2.
ويكره الاقتصار على الصلاة أو السلام في الكتابة، وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في "التقريب"3 وفي "شرح صحيح مسلم"4 وذلك لقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 5 وقد اقتصر الإمام مسلم في مفتتح صحيحه على الصلاة، وهذا مما أنكر عليه ويكره أيضا الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين أو أكثر كمن يكتب "صلعم" أو "ص".
1 تدريب الراوي ص292، 293.
2 التدريب ص293.
3 التدريب ص294.
4 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص44.
5 الأحزاب/ 56.
وكذلك ينبغي الترضي والترحم على الصحابة والعلماء، وسائر الأخيار، ولا يجوز استعمال عز وجل ونحوه في النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان عزيزا جليلا، ولا يجوز الصلاة والسلام على الصحابة وغيرهم استقلالا، ويجوز على سبيل التبع له صلى الله عليه وسلم.
"المسألة الخامسة": بعد إتمام نسخ الكتاب تجب مقابلته على الأصل المنقول منه أو على نسخة منقولة من الأصل مقابلة، أو مقابلته بأصل أضل الشيخ المقابل به أصل الشيخ لأن الغرض مطابقة كتابه لأصل شيخه فسواء حصل ذلك بواسطة أو غيرها، وهذا لتصحيح المنسوخ خشية سقوط شيء منه، أو وقوع خطأ في النقل، فقد روى ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي قالا:"من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج"1 وقال عروة بن الزبير لابنه هشام: "كتبت؟ قال: نعم قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب"، رواه البيهقي في المدخل، وقال الأخفش:"إذا نسخ الكتاب ولم يعارض، ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا".
وذكر البلقيني أن في المسألة حديثين مرفوعين، أحدهما عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فرغت قال: "اقرأ"، فأقرؤه فإن كان فيه سقط أقامه" ذكره المرزباني في كتابه.
ثانيهما ذكره السمعاني في "أدب الإملاء من حديث عطاء بن يسار قال: "كتب رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال كتبت؟ قال: نعم قال: عرضت؟ قال: لا، قال: لم تكتب حتى تعرضه فيصح" قال: وهذا أصرح في المقصود إلا أنه مرسل لأن عطاء بن يسار تابعي.
قال السيوطي في "التدريب": الحديث الأول رواه الطبراني في
1 ذكر ابن الصلاح هذا عن الشافعي ويحيى بن أبي كثير، والصحيح عن الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير كما قال العراقي.
الأوسط بسند رجاله موثقون1 والأفضل أن يقابل الكاتب نسخته على الأصل مع شيخه الذي يروي عنه الكتاب إن أمكن، أو مع شخص آخر، أو يقابل بنفسه وحده كلمة كلمة، ورجحه أبو الفضل الجارودي فقال: أصدق المعارضة مع نفسك، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه فقال:"ولا تصح المقابلة مع أحد غير نفسه، ولا يقلد غيره" حكاه القاضي عياض عن بعض أهل التحقيق.
وقال ابن الصلاح: إنه مذهب متروك، والقول الأول أولى، وإذا لم يتمكن الناسخ من مقابلة نسخته بالأصل فيكتفي بأن يقابلها غيره في أي وقت كان.
ويستحب لمن يسمع من الشيخ أن يكون بيده نسخة يقابل عليها فإن لم يكن فينظر مع أحد الحاضرين في نسخته لا سيما إذا أراد النقل منها.
وذهب يحيى بن معين إلى اشتراط ذلك فقد روي أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ: هل يجوز أن يحدث بذلك؟ فقال: "أما عندي فلا يجوز، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم" قال ابن الصلاح، وتابعه النووي:"والصواب الذي قال الجمهور أنه لا يشترط ذلك في صحة السماع".
أما إذا لم يعارض الراوي كتابه بالأصل ونحوه فذهب إلى جواز الرواية به أبو إسحاق الإسفراييني، وآباء بكر وهم الإسماعيلي، والبرقاني والخطيب، ولكن بشروط ثلاثة:
1-
إن كان الناقل للنسخة صحيح النقل قليل السقط.
2-
وإن كان نقل من الأصل.
3-
وإن بين حال الرواية أنه لم يقابل كما كان يفعل البرقاني، فإنه روى أحاديث كثيرة قال فيها:"أخبرنا فلان ولم أعارض" وهذا غاية الأمانة في الرواية وذهب القاضي عياض إلى أنه لا يجوز له الرواية منه عند عدم
1 التدريب ص294.
المقابلة، والصحيح الجواز وينبغي أن يراعي الطالب في كتاب شيخه مع من فوقه ما ذكرنا أنه يراعيه في كتابه1، وهو ما ذكره في هذه المسألة وهو أن يكون شيخه قد قابل نسخته بأصل شيخه وهكذا.
1 علوم الحديث لابن الصلاح من ص209-211 ط السلفية بالمدينة المنورة، والتدريب من ص294، 296، فتح المغيث للسخاوي ج2 من ص165-171.
2 اللحق: بفتح الحاء المهملة شيء يلحق بالأول، ومن التمر الذي يلحق بعد الأول:"قاموس".
ذهب إليه البعض أن لا يكون مقبولا.
وأما إذا أراد أن يكتب شيئا بحاشية الكتاب على سبيل الشرح، أو بيان غلط، أو اختلاف في رواية، أو نسخة، أو نحوه فالمختار إن يرسم العلامة السابقة في وسط الكلمة التي يكتب عنها فتكون العلامة فوقها ليفرق بين التصحيح وبين الحاشية واختار القاضي عياض إن يضبب فوق الكلمة لئلا يلتبس ويظهر أنه من الأصل أقول: وفي عصورنا هذه بعد اكتشاف آلات الطباعة توضع الأرقام للحواشي فوق الكلمة إلى اليسار كما ترى في هذا الكتاب وغيره وهو أيسر وأسهل1.
ولا يكتب الحواشي في كتاب لا يملكه إلا بإذن مالكه، وأما الإصلاح فيه فجوزه بعضهم بدونه قياسا على القرآن والذي يترجح عندي أن يكون حكم الإصلاح متوقفا على إذن مالكه أيضا ومن هذا الأصل الحكيم لا يبيح نظام المكتبات العامة لأي طالب أو قارئ التغيير أو التصحيح أو الزيادة في أي كتاب وإلا شوهت الكتب وسودت، وقد يكون الطالب أو القارئ غير أهل للتصحيح ولا للتعليق، فيؤدي إلى مسخ الكتب وإفساد معانيها، ولا سيما إذا كان الكتاب مخطوطا.
"المسألة السابعة" من شأن المتقنين في النسخ والكتابة إن يضعوا علامات توضح ما يخشى إبهامه، وتسمى: التصحيح والتضبيب، أو التمريض فإذا وجد كلام صحيح معنى ورواية وهو عرضة للشك في صحته أو الخلاف كتب فوق علامة التصحيح هكذا "صح" وإذا وجد ما هو صحيح نقلا ولكنه فاسد لفظا أو معنى أو خطأ أو مصحف، أو ناقص كتب فوقه علامة "التضبيب" وتسمى أيضا:"التمريض" وهي
1 علوم الحديث من ص211-213. والتدريب من ص296-286 ط المحققة، وفتح المغيث ج2 من ص173-175.
صاد ممدودة هكذا "صـ" ولكنه لا يلصقها بالكلام لئلا يظن أنه إلغاء له، وضرب عليه، وللتفرقة بين الصحيح، والسقيم، كتب على الأول لفظ كامل، وعلى الثاني حرف ناقص ليدل نقص الحرف على اختلاف الكلمة وتسمى أيضا "ضبة" لكون الحرف مقفلا بها لا يتجه لقراءة كضبة الباب مقفل بها1، وكذلك توضع علامة التضبيب على موضع الإرسال أو الانقطاع في الإسناد قال ابن الصلاح: ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة، وليست كذلك، وكأنها علامة وصل فيما بينها أثبتت تأكيدا للعطف خوفا من أن يظن أن العطف خطأ وأن الأصل "فلان عن فلان" والأحسن في مثل هذا أن توضع علامة التصحيح، وربما اقتصر بعض الناسخين من علامة التصحيح على الصاد فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب فلتنتبه لذلك2.
وقد اصطلح المتأخرون في عصورنا هذه على كتابة كلمة "كذا" بعد ما هو خطأ في المعنى، ونحوه مع ثبوت النقل، ولا مشاحة في الاصطلاح والله أعلم وقد وقفت على أن لذلك أصلا في كلام العلماء السابقين كابن الجزري وغيره3.
"المسألة الثامنة" إذا وقع في الكتاب المنسوخ ما ليس منه نفي منه إما بالضرب عليه، أو الحك بسكين ونحوها، أو بالمحو بماء ونحوه فيما إذا
1 نقل العلامة ابن الصلاح ذلك عن أبي القاسم الإفليلي وقد ضبطه السخاوي وابن خلكان بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر اللام ينسب إلى قرية من أرض الجزيرة تسمى "إفليل" نزلها أسلافه وقال ابن خلكان: هذه النسبة إلى الإفليل وهي قرية بالشام.
وهو أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا القرشي الزهري الأندلسي النحوي اللغوي يروي عن الأصيلي ويروي عنه أبو مروان الطبني وتوفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وفي مراصد الاطلاع: أفليلاء بفتح الهمزة أو له قيل: قرية من قرى الشام.
2 علوم الحديث لابن الصلاح 214-215 ط المكتبة السلفية، والتدريب ص298، 299، وفتح المغيث ج2 ص177-179.
3 فتح المغيث ج2 ص178.
كانت الكتابة في لوح، أو رق، أو ورق صقيل لا يتأثر بالطراوة، والأول أولى وأحسن لما في الآخرين من التهمة، ولأن ما بشر وبما يصح في رواية أخرى، أو يأتي غيره فيصححه فلو ضرب عليه يمكن للآخر أن يصححه.
والضرب له كيفيات عدة فالأكثرون على أن يخط فوق المضروب عليه خطا بينا يدل على إبطاله، ولا يطمسه، بل يمكن قراءاته بعد الضرب عليه، ويسمى هذا "الضرب" عند أهل المشرق، والشق1 عند أهل المغرب.
وبعضهم لا يخلط الضرب بالمضروب عليه، بل يكون فوقه منفصلا عنه، معطوفا طرفا الخط على أوله، وآخره هكذا
وبعضهم يكتب في أول الزائد من فوق "لا" أو "من" أو "زائد" وفي آخره من فوق أيضا كلمة "إلى" ليعرف القارئ الزيادة بالضبط، ونجد هذا كثيرا في الكتب المخطوطة القديمة.
وإذا كانت الزيادة بالتكرار فقد اختلف في طريقة الضرب: فقيل: يضرب على الثاني مطلقا، لأنه كتب على خطأ، وقيل: يبقى أحسنها صورة، وأبينها قراءة، ويضرب على الآخر.
وفصل القاضي عياض، فقال: إن كانت الكلمتان أول سطر ضرب على الثاني، أو آخره فعلى الأول صونا لأوائل السطور وأواخرها عن
1 الشق: بفتح المعجمة، وتشديد القاف من الشق وهو الصدع أو شق العصا، وهو التفريق كأنه فرق بين الزائد، وما قبله، وما بعده من الثابت بالضرب.
الطمس وإن كانت الثانية أول سطر والأولى آخر سطر فعلى الأولى، فإن تكرر المضاف أو المضاف إليه، أو الموصوف، والصفة ونحوه فينبغي مراعاة اتصالهما بأن لا يضرب على المتكرر بينهما، بل على الأول في المضاف والموصوف، أو الآخر في المضاف إليه، والصفة وهو تفصيل حسن1.
"المسألة التاسعة" شاع بين المحدثين وغلب عليهم الاقتصار في الكتابة على الرمز في "حدثنا" و"أخبرنا" لتكررها كثيرا في الأسانيد، فيكتبون من حدثنا: الثاء، والنون، والألف هكذا "ثنا" وقد تحذف الثاء أيضا، ويقتصر على الضمير "نا" ويكتبون من أخبرنا: الهمزة والضمير هكذا "أنا" ولا تحسن زيادة الباء قبل النون، وإن فعله البيهقي وغيره لئلا تلتبس برمز حدثنا، وقد تزاد راء بعد الألف قبل النون هكذا "أرنا" أو خاء بعد الألف، وقبل النون هكذا "أخنا".
وقد تزاد أيضا دال أول رمز حدثنا فيكون هكذا "دثنا" وقد وجد ذلك في خط الحاكم أبي عبد الله، وأبي عبد الرحمن السلمي، والبيهقي.
"تنبيه" قال السيوطي: يرمز أيضا إلى حدثني، فيكتب "ثني" أو "دثني" دون أخبرني وأنبأنا، وأنبأني، يعني: فإنها لا يرمز لها.
وأما "قال" فقال العراقي: منهم من يرمز لها بقاف، ثم اختلفوا فبعضهم يجمعها مع رمز التحديث هكذا "قثنا" يريد: قال: حدثنا، قال: وقد توهم من رآه كذلك أنها الواو التي تأتي بعد حاء التحويل، وليس كذلك، وبعضهم يفردها هكذا "ق، ثنا" وهذا اصطلاح متروك2.
1 علوم الحديث لابن الصلاح ص215-217، تدريب الراوي ص300-302، فتح المغيث من ص180-184.
2 علوم الحديث ص218، والتدريب ص302، وفتح المغيث ج2 189، 190.
"المسألة العاشرة" جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، وجمعوا بينهما في متن واحد أن يكتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد آخر، حرف "ح" مفردة مهملة؛ ونجد هذا كثيرا في صحيح الإمام مسلم ويوجد قليلا في صحيح الإمام البخاري، ولم يأت من أحد بيان لأمرها فمن ثم اختلفت أقوال العلماء في المراد منها: فقيل: إنها رمز إلى "صح" ولهذا كتب جماعة من الحفاظ كأبي مسلم الليثي، وأبي عثمان الصابوني موضعها "صح".
قال ابن الصلاح: وحسن إثبات صح هنا لئلا يتوهم أنه حديث هذا الإسناد سقط، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد الأول فيجعلا إسنادا واحدا.
وقيل: إنها للإشارة إلى التحويل أي الانتقال من إسناد إلى إسناد آخر.
وقيل: حاء من حائل لأنها تحول بين إسنادين قال ابن الصلاح: وسألت أنا الحافظ أبا محمد عبد القادر الرهاوي رحمه الله عنها فذكر أنها حاء من حايل أي تحول بين الإسنادين.
وقيل: هي رمز إلى قولنا "الحديث" وأهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها الحديث، والأظهر أنها للتحويل من إسناد إلى إسناد آخر.
وقد ظهر لي من تتبع صنيع الأئمة، ولا سيما الإمام الجليل مسلم أنهم يلجئون إلى التحويل حينما يكون للحديث أكثر من إسناد واحد ويكون الإسنادان أو الأكثر متفقة في بعض الرواة، ومفترقة في البعض، فيذكر مواضع الافتراق ذاكرا حرف "ح" بين كل إسناد وآخر ثم بعد استيفاء الطرق بذكر موضع الاتفاق وللإمام الجليل مسلم دقائق، ولطائف في التحويلات اكتسبتها بدراساتي للكتاب أعوام أن كنت أقوم
بتدريسه وشرحه لطلاب الحديث في كلية أصول الدين، إحدى كليات الجامع الأزهر المعمور بالعلم والعلماء.
ولأجل هذا الاختلاف في المراد بحرف "ح" كان المختار -وهو اختيار الإمام ابن الصلاح- أن يقول القارئ عند الوصول إليها "حا" ويمر فإنه أحوط الوجوه وأعدلها والعلم عند الله تعالى1.
"المسألة الحادية عشرة" ينبغي في كتابة التسميع أن يكتب الطالب بعد البسملة اسم الشيخ المسمع، ونسبته وكنيته قال الخطيب: وصورة ذلك، حدثنا أبو فلان بن فلان الفلاني قال: حدثنا فلان، ثم يسوق المسموع على لفظه ويكتب فوق البسملة أسماء السامعين، وأنسابهم، وتاريخ وقت السماع أو يكتبه في حاشية أول ورقة من الكتاب أو آخر الكتاب، أو موضع آخر حيث لا يخفى منه، والأول أحوط.
قال الخطيب: وإن كان السماع في مجالس عدة كتب عند انتهاء السماع في كل مجلس علامة البلاغ، وينبغي أن يكون ذلك بخط ثقة معروف الخط ولا يحتاج حينئذ إلى كتابة الشيخ خطه بالتصحيح أي تصحيح السماع، ولا بأس أن يكتب سماعه بخط نفسه إذا كان ثقة كما فعله الثقات.
قال ابن الصلاح: وقد قرأ عبد الرحمن بن مندة جزءا على أبي أحمد الفرضي وسأله خطه ليكون حجة له، فقال له: يا بني عليك بالصدق فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد وتصدق فيما تقول: وتنقل، وإذا كان غير ذلك فلو قيل لك: ما هذا خط الفرضي فماذا تقول لهم؟
وعلى كاتب التسميع التحري في ذلك والاحتياط وبيان السامع، والمسمع، والمسموع بلفظ وجيز غير محتمل، ومجانبة التساهل فيما يثبته، والحذر من إسقاط بعضهم بغرض فاسد، فإن لم يحضر فله أن يعتمد في
1 علوم الحديث 218، 219، والتدريب ص303، 304، وفتح المغيث ج2 ص192-193.
حضورهم خبر ثقة حضر.
ومن يثبت في كتابه سماع غيره فقبيح به كتمامه إياه ومنعه نقل سماعه منه، أو نسخ الكتاب، فقد قال وكيع بن الجراح: أول بركة الحديث إعارة الكتب.
وقال سفيان الثوري: من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاث:
1-
أن ينساه.
2-
أو يموت ولا ينتفع به.
3-
أو تذهب كتبه.
قال السيوطي: وقد ذم الله تعالى في كتابه مانع العارية بقوله: "ويمنعون الماعون" وإعارة الكتب أهم من الماعون.
وإذا أعاره كتابه فلا يبطئ عليه بكتابه إلا بقدر حاجته، قال الزهري:"إياك وغلول الكتب" وهو حبسها عن أصحابها، وقال الفضيل بن عياض: ليس من فعال أهل الورع، ولا من فعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه، فإن منعه فإن كان سماعه مثبتا برضا صاحب الكتاب أو بخطه لزمه إعارته، وإلا فلا، كذا قال أئمة مذاهبهم في أزمانهم منهم القاضي حفص بن غياث الحنفي من الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، وإسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي إمام أصحاب مالك، وأبو عبد الله الزيبري الشافعي، وخالف فيه بعضهم، والصحيح الأول.
قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح: قد تعاضدت أقوال هؤلاء الأئمة في ذلك ويرجع حاصلها إلى أن سماع غيره إذا أثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه.
قال: وقد كان لا يلقى له وجه، ثم وجهته بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده فعليه أداؤها بما حوته، وإن كان فيه بذل ماله، كما يلزم متحمل
الشهادة أداؤها، وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها.
وقال البلقيني: عندي في توجيهه غير هذا، وهو أن مثل هذا من المصالح العامة التي يحتاج إليها من حصول علقة بين1 المحتاج والمحتاج إليه تقضي إلزامه بإسعافه مقصده.
قال: وأصله إعارة الجدار لوضع جذور الجار عليه، وقد ثبت ذلك في الصحيحين وقال بوجوب ذلك جمع من العلماء، وهو أحد قول الشافعي، فإذا كان يلزم الجار بالعارية مع دوام الجذوع في الغالب فلأن يلزم صاحب الكتاب مع عدم دوام العارية أولى فإذا نسخه فلا ينقل سماعه إلى نسخته أي لا يثبته عليها إلا بعد المقابلة المرضية، وكذا لا ينقل سماع ما إلى نسخة إلا بعد مقابلة مرضية إلا أن يبين كونها غير مقابلة2.
"النتيجة":
"وبعد" فلعلك بعد هذه الجولة الطويلة في كتابة الحديث وكيفيتها وآدابها ازددت يقينا بما امتاز به المحدثون من الدقة الفائقة والأمانة البالغة في النسخ ومقابلة المنسوخ على أصوله، وإلحاق الساقط، والتنبيه إلى ما عسى أن يوجد في النسخ المكتوبة من خطأ أو تغاير في رواية، أو وهم، ونحو ذلك.
وأنهم كما امتازوا يتحرى الصدق والضبط في المحفوظ امتازوا أيضا بتحريهما في المكتوب وأيضا فقد صرت بعد هذا التطواف على بصيرة بطريقة الكتب المخطوطة القديمة ومناهجهما في الكتابة، والخط، والرمز،
1 العلقة هي العلاقة والمودة التي تكون بين شخصين أو أكثر.
2 علوم الحديث لابن الصلاح ص219-221، والتدريب من ص304-307، وفتح المغيث ج2 من ص194-200.