الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا شك في المراد التعليمي مع القصد التعبدي المحض في هذه القراءة كما يقول (سير وليم موير) الذي نقل رأيه صاحب كتاب (حياة محمد) : «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا
…
لذلك وعت القران ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وقد يسرت عادات العرب هذا العمل. فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم
…
ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، وبذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو
…
وقد بلغ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قوة الذاكرة ودقتها، ومن التعلق بحفظ القران واستذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه» «1» .
ملامح تعليمية في حياة المعلم القدوة صلى الله عليه وسلم:
1-
ظهر التأكيد على التلاوة في الايات المدنية، فالايات الأربع التي ذكرت فيها وظائف النبي صلى الله عليه وسلم الثلاث كلها في سور مدنية دلالة على أهمية إيلاء هذا الجانب أشد الاهتمام بعد تأمين الدولة الإسلامية، وليس معنى ذلك عدم الاستنفار لأداء هذه الوظيفة في عهد قبل ذلك بل المراد توسيع دائرة التعليم في هذا العهد، وابتكار محاضن فردية ومؤسسية له بحسب نمو المجتمع مدنيا، واتساعه جغرافيا، ولذا ورد المن بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل لأجل ذلك كما قال جل جلاله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ (البقرة: 151) .
(1) انظر: حياة محمد ليهكل بواسطة محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه (ص 1) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
2-
أن هذه الوظيفة وظيفة مشتركة بين جميع الأنبياء، على أنه قد تميز بها النبي صلى الله عليه وسلم تميزا ظاهرا لتميزه بالقران ثم بالخاتمية، وقد حدد هذه الوظيفة ابتداء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام «1» .
3-
أن النبي صلى الله عليه وسلم تأهل بالصفات التعليمية اللازمة للمعلم الكامل القدوة (النموذج) ، وعرف الصحابة عنه ذلك، ومما يؤشر في هذا السبيل: ما قاله معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: «فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني» «2» ، والمراد الإشارة إلى هذا المعلم من صفاته صلى الله عليه وسلم لا التفصيل.
4-
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ذلك أول شيء يجب أن يتعلمه العبد عند إسلامه، وإن كان مقدار المحفوظ المعلّم يتفاوت بحسب الأهلية للتصدر معلّما دائما للإقراء، أو مسلما يجب عليه حفظ ورد معين
…
ويوضح ذلك ما رواه سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت فيمن أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر فصاعدت في الجبل، ثم هبطت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص: 1) وإِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال: «هن الباقيات الصالحات وفي رواية قل يا أيها الكافرون» «3» .
(1) انظر: ابن كثير (1/ 184) ، مرجع سابق.
(2)
مسلم (1/ 381) ، مرجع سابق.
(3)
الطبراني في الكبير (6/ 51) ، الحديث في مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق، وانظر: الإصابة (3/ 49) .
ويتضح مما سبق أن تعليم القران الكريم على الهيئة التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال: وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «1» ، ولا شك أن أول ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعليمه إنما كان تعليم ألفاظ القران الكريم كما في صريح تلك الايات المتقدمة، وهو أول جزء من أجزاء وظيفة البلاغ الذي أمر به في رسالته، وقد سئل الثوري- رحمه الله تعالى- عن الجهاد وإقراء القران فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث.
فإن اعترض على كون تعليم القران الكريم أفضل أنواع التعليم بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القران ويدعون الله، والاخرى يتعلمون ويعلّمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كلّ على خير: هؤلاء يقرؤون القران ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون وإنما بعثت معلما» فجلس معهم «2» ، فدل هذا بظاهره على تقديم تعليم غير القران من أمور الشرع.
فالجواب: ليس في الحديث ذكر لتعليم القران الكريم في الحلقة الأولى بل غاية ما فيه ذكر قراءتهم للقران لا تعليم ألفاظه، وليس هذا مدار المسألة، على أن ذكر التعليم في الحلقة الثانية منصرف أول ما ينصرف إلى تعليم القران الكريم، ولذا طلب الأوس والخزرج من يعلّمهم القران الكريم، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب منه إرسال من يعلم القبائل كان يرسل معهم القراء، ويحمل على هذا الرواية الاخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في
(1) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة.
(2)
سنن ابن ماجه (1/ 83) .
ثم جلس فيهم «1» ، وفي لفظ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وقوم يذكرون الله عز وجل، وقوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كلا المجلسين إلى خير، أما الذين يذكرون الله عز وجل ويسألون ربهم فان شاء أعطاهم وان شاء منعهم، وهؤلاء يعلّمون الناس ويتعلمون، وإنما بعثت معلما وهذا أفضل» فقعد معهم «2» .
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، وكانت له الحلقات الخاصة للقراءة والإقراء:
كما في قول الله- تعالى ذكره-: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ (الكهف: 28)، فقد قال بعض المفسرين فيها:«كان ذلك تعلّمهم القران وقراءته» «3» ، ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء وجلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت له حلقة القوم فقال:«ألم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا رسول الله صاحبنا يقرأ علينا القران ويدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا رسول الله اقرأ وأنت فينا؟ قال: «نعم» . ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن
(1)(الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن 255 هـ: سنن الدارمي (1/ 111)، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت.
(2)
(الطيالسي) أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري ت 204 هـ: مسند الطيالسي (ص 298) ، دار المعرفة، بيروت.
(3)
الطبري (7/ 205) ، مرجع سابق.