الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذا ظهر الفرق بين القران الكريم وبين الحديث بنوعيه القدسي والنبوي لزاما واقعيا وشرعيا؛ إذ إن هذين للخاصة، بخلاف القران المحفوظ كليا في صدور عدد كبير من الأمة، المكتوب في المصاحف المتلو في المحاريب، وفي سائر الأمكنة التي تسوغ قراءته فيها اناء الليل وأطراف النهار.
قاعدة في حفظ القران في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
بالنظر إلى الطبيعة الأصلية لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبليغ الوحي السماوي المنزل (القران الكريم) ، وبالنظر إلى تفصيل وظائف النبي صلى الله عليه وسلم، وبيانها، وبالتأمل في واقع الصحابة رضي الله عنهم، وبعيدا عن اتهام الكاتب بالعاطفية المفرطة، أو بالتأثر العاطفي الديني فإنه يمكن إرساء القاعدة التالية:
الأصل في الصحابي المهاجر (المتمدن) - وهو الملازم المقيم في المدينة الذي حرم عليه التعرب بعد الهجرة- أن يكون حافظا للقران، ولكن قد يتلقنه كله أو بعضه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وقد يتلقن البعض من النبي صلى الله عليه وسلم وبقيته من غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وقد يتلقنه كله من الصحابة أمثاله، ومما يستدل به في طريق ذلك:
1-
كان حفظ القران بديهيا بالنسبة للصحابة الكرام:
أما أولا فللطبيعة العربية في ذلك الوقت فهم أميون:
ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار، وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القران وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم، وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم، وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم، ثم جاء القران فبهرهم بقوة بيانه، وأخذ عليهم مشاعرهم
بسطوة سلطانه، وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة «1» .
وأما ثانيا: فلأنه المادة العلمية الوحيدة المقررة عليهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية كما سبق تفصيله في الفصل الأول.
2-
تقدمت في الفصل الأول أحاديث تبين اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من المسلمين في إقراء المسلمين الجدد، أو النائين عن المدينة، ومن ذلك:
ما جاء عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران.. «2» ..
3-
ثبوت حفظ كثير من أئمة الإقراء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
والمراد غير الذين حددهم بعض الصحابة أو التابعين، ولذا فالحصر لا مفهوم له في كلام من حصر، وقد وصل عدد الحفظة من الأنصار إلى سبعين شخصا من المتفرغين للقران دون غيره، فقد قال ابن حبان:«ذكر وصف القراء من الأنصار» ثم أسند عن أنس بن مالك قال: كان شباب من الأنصار يسمون القراء يكونون في ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم فيصلون من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واستعذبوا من الماء فوضعوه على أبواب حجر رسول الله فبعثهم جميعا إلى بئر معونة فاستشهدوا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على قتلتهم أياما «3» .
4-
القران إنما نزل ليقرأ ويحفظ وينشر، وينذر به:
(1) انظر: مناهل العرفان (1/ 168) ، مرجع سابق.
(2)
المختارة (8/ 267) ، أحمد (5/ 324) ، مرجعان سابقان.
(3)
ابن حبان (16/ 253) ، وهو في البخاري.
ولأنها كذلك فقد كانت قراءة القران وحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى التصريح حديثيا بأنها قد تمت، لضرورة ذلك بما علم من حال المسلمين، وطبيعة الرسالة، وغلبة الحافظة عليهم، والأهمية التي كانت تلقاها الايات النازلة وحيا من الله عز وجل
…
ولذا فالتصريح القائم في الأحاديث لزيادة أهمية المصرّح بهم لا لضرورة التصريح، ولذلك كان الصحابة حتى المتأخرون منهم يختلفون في قراءة القران لعدم العلم بتقرير نزوله على الأحرف السبعة
…
دلالة على إتقانهم لحرف واحد منه على الأقل
…
وأذعن لهذه الحقيقة بعض الباحثين الأوروبيين فقال:
5-
تنافس الصحابة رضي الله عنهم في حفظ القران الكريم:
وقد كان كتاب الله جل جلاله بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم «في المحل الأول من عنايتهم يتنافسون في استظهاره، وحفظه، ويتسابقون إلى مدارسته، وتفهمه، ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه وربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القران يعلمها إياها زوجها، وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به
(1) الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) ص 96 نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم والتوراة والإنجيل والعلم) .
والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقران «1» ، وكانوا يتبارون في المحفوظ في الصلاة- وهي المحل النموذجي للمراجعة- فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له فكشف المستورة وقال ألا أن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة «2» .
6-
وقد كان الاعتماد على الحفظ مقدما على أي شيء اخر للأحاديث فضلا عن القران كما هو معلوم.
7-
نزّل القران منجما:
وكان من حكم نزول القران منجما استظهار القران، وحفظه عن ظهر قلب، وزيادة على بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم للنازل من الوحي القراني أولا بأول كان كتبة الوحي يقومون بذلك: فعن زيد ابن ثابت قال كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة وعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب وهو يملي علي فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3» .
وقد كان القاص يوم اليرموك وهو يوم قريب من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن حرب مع قرب إسلامه، وهم لا يجعلون شخصا غير متأهل بالقران.
(1) مناهل العرفان (1/ 168) ، مرجع سابق.
(2)
ابن خزيمة (1/ 190) ، الحاكم (1/ 594) ، النسائي في الكبرى (5/ 32) ، البيهقي في السنن الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(3)
الطبراني في الأوسط (2/ 257) ، والكبير (5/ 142) .
8-
ومن أقوى أدلة هذه القاعدة:
وأقوى أدلة هذه القاعدة أن القراء قد كثروا كثرة عظيمة مذ استقرت قواعد دولة الإسلام في المدينة، فكان منهم السبعون من أصحاب بئر معونة، وأشخاصهم بدقة لم تعرف كلها حتى الان، وكان منهم سبعون على الأقل ممن قتل من قراء المسلمين يوم اليمامة، ولا شك أن القتلى قد جمعوا القران في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ تسارعت أحداث الردة ولم تكن لتجعلهم يفرغون لذلك بعد وفاته.
ولهذه القاعدة فقد كان الصحابة يبحثون عن الاية مكتوبة في جمع القران الكريم في عهد أبي بكر للاستيثاق مع أنها كانت محفوظة في صدورهم، وهذا معنى قول زيد بن ثابت:«ففقدت اية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» «1» ، فالمراد أنه فقد الاية مكتوبة؛ لأن وجود الاية مكتوبة أمر حتمي فهمه الصحابة من تسمية القران كتابا، ومن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة المصحف وكانوا يطلبون على كتابتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم شاهدين إضافة إلى كونها محفوظة في صدروهم وهذا يبين أن حفظ القران صار بينهم شيئا عاما شائعا.
وكان الصحابة لا يظهرون أحسن ما عندهم شأنهم في شأن شأن الصالحين الذين اقتفوا اثارهم فعن الحسن قال: «إن كان الرجل لقد جمع القران وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده وردت الزور- الضيوف- وما يشعرون به
(1) البخاري (3/ 1033) ، مرجع سابق.