الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تعليمه صلى الله عليه وسلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول:
إذا كان القران قد نزل من عند الله على سبعة أحرف؛ فإن هذا يعني أنه لا دخل للاجتهاد البشري في كلام الله جل جلاله، وإلا لما سمّي كلامه، ولذا يروم هذا المبحث أن يؤكد على هذه الحقيقة، ويتم ذلك من خلال تقسيم المبحث إلى المطالب الخمسة الاتية:
المطلب الأول: التلقي والتوقيفية في القراات
.
المطلب الثاني: تعليمه صلى الله عليه وسلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه.
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟.
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية.
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى.
المطلب الأول: التلقي والتوقيفية في القراات:
التوقيفية معناها التعليمية «1» ، وهو مصطلح شرعي يدل على ضرورة الوقف عند الشيء المحدد الذي أتى به الشرع وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم إدخال الاجتهاد البشري فيه، ويظهر التأكيد عليها في:
تعليمه صلى الله عليه وسلم وجوب الالتزام بأداء اللفظ القراني كما تعلّم:
تدل الروايات الواردة في الأحرف السبعة جميعا على أن القراات المتعددة «كذلك أنزلت» ، و «كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، و «اقرؤوا كما علمتم» ،
(1) حاشية العدوي (1/ 77) ، مرجع سابق.
وكل هذه الألفاظ المتعددة تتضافر على التأكيد على أمر واحد هو أن القراات توقيفية منزلة من عند الله عز وجل ليس لأحد أن يقرأ بمحض اجتهاده فيأتي بما يظنه مرادفا، أو يقرأ بهيئة مختلقة من عند نفسه، وعلى أن منهج الإقراء المعتمد هو التلقي والتناقل، وليس غيره.
ومعنى «هكذا أقرأني جبريل» «أنه أقرأه مرة بهذه، ومرة بهذه» «1» ، كما قالوا:
كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نقرأ القران كما أقرئناه وقال: إنه أنزل على ثلاثة أحرف فلا تختلفوا فيه فإنه مبارك كله فاقرؤوه كالذي أقرئتموه «2» .
وأمر صلى الله عليه وسلم بالتزام كل شخص ما علّم فعن حذيفة رضي الله عنه قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل وهو عند أحجار المرى فقال: «إن أمتك يقرؤون القران على سبعة أحرف فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه» «3» ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية فجلس إلي رهط فقلت لرجل اقرأ علي فإذا هو يقرأ أحرفا لا أقرؤها فقلت من أقرأك؟ فقال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى وقفنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اختلفنا في قراءتنا، فإذا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تغير ووجد في نفسه حين ذكرت الاختلاف فقال إنما هلك من قبلكم بالاختلاف فأمر عليا فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف قال فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حرفا لا يقرؤه صاحبه «4» .
(1) القرطبي (1/ 48) ، مرجع سابق.
(2)
الطبراني في الكبير (7/ 152) ، مرجع سابق.
(3)
أحمد (5/ 385) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 151) ، مرجع سابق.
(4)
ابن حبان (3/ 22) ، الحاكم (2/ 243) ، مرجعان سابقان.
وكان يصف ما قرأه المرء مما علّم بأنه حسن جميل، فعن زيد بن أرقم قال:
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أقرأني عبد الله بن مسعود سورة وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي فاختلفت قراءتهم فقراءة أيهم اخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه: «ليقرأ كل إنسان كما علم فكل حسن جميل» «1» .
والتوقف عند ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت القراءة سماعا كما تدل عليه الأدلة السابقة أو عرضا كما قال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما أقرأني فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف «2» .
وكان إنكارهم في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء ألفاظ القران الكريم قد بلغ حدا عظيما، فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت:
من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت إن هذا القران أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه» «3» ، وعن أبي بن كعب قال ثم كنت جالسا في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل اخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضى
(1) الطبراني في الكبير (5/ 198) ، مرجع سابق وهو في مجمع الزوائد (7/ 154) ، مرجع سابق.
(2)
معجم الشيوخ ص 162، مرجع سابق.
(3)
البخاري (4/ 1909) ، مسلم (1/ 560) ، مرجعان سابقان.
الصلاة دخلا جميعا على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم قرأ الاخر قراءة سوى قراءة صاحبه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرا» فقرأ فقال: «أحسنتما» أو قال: «أصبتما» (وحسن قراءتهما) قال فلما قال لهما الذي قال كبر علي فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما غشيني ضرب في صدري فكأني أنظر إلى ربي فرقا، وفي لفظ:«فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال الذي قال سقط في نفسي من الأمر وكبر علي ولا إذ في الجاهلية ما كبر علي فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ضرب في صدري ففضت عرفا فكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبي إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القران على حرف» فرددت عليه أن هون على أمتي مرتين فرد علي أن اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألته يوم القيامة فقلت اللهم اغفر لأمتي ثم أخرت الثانية إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم «1» ، وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ولابن مسعود:«بلى كلاكما محسن مجمل» فقلت ما كلانا أحسن ولا أجمل قال فضرب صدري.. «2» .،
وفي هذا نفور شديد ظاهر، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه:«إن هذا القران أنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط» .
وهذه التوقيفية عبر عنها أئمة السلف بأن القراءة سنة:
أي يجب أن تتبع دون ابتداع، في لفظها ولا في أدائها، فعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم» ، وقال حذيفة رضي الله عنه: «اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموهم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا
(1) مسلم (1/ 562) ، ابن حبان (3/ 15) ، مرجعان سابقان، وما بين العارضتين من المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415) ، مرجع سابق.
(2)
النسائي في الصغرى (1/ 567) ، أبو داود (2/ 76) ، مرجعان سابقان.
بعيدا» «1» ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:«إني سمعت القرأة فرأيتم متقاربين فاقرؤا كما علّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف وإنما هو كقولك هلم وأقبل وتعال» ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:«القراءة سنة فاقرؤه كما تجدونه» ، وعن محمد بن المنكدر قال:«القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول» ، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز، وعن عامر الشعبي قال: القراءة سنة فاقرؤا كما قرأ أولوكم، وعن عروة بن الزبير قال: إنما قراءة القران سنة من السنن فاقرؤه كما علمتموه «2» ، وقال: عروة بن الزبير، إنما قراءة القران سنة فاقرؤوا كما علمتموه، وقيل لطلحة بن مصرف:«يا أبا عبد الله إن بعض أصحاب النحو يقولون: إن في قراءتك لحنا، قال: ألحن كما لحن أصحابي أحب إلي من أتابع هؤلاء» «3» .
كما كانوا يحظرون على الإنسان أن يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد فعن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا، وعن الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء وبركنا عليه في موضع وتركنا عليه في موضع أيعرف هذا؟ فقال ما يعرف إلا أن يسمع من المشايخ الأولين «4» .
وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني- رحمه الله تعالى-:
أيا قارئ القران أحسن أداءه
…
يضاعف لك الله الجزيل من الأجر
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه
…
وما كل من في الناس يقرئهم مقري
وإن لنا أخذ القراءة سنة
…
عن الأولين المقرئين ذوي الستر
(1) البخاري (6/ 2656) ، مرجع سابق.
(2)
انظر تخريج ما سبق في السبعة ص 46- 50، مرجع سابق، وانظر: فتح الوصيد في شرح القصيد (1/ 80- 81) ، مرجع سابق.
(3)
الكامل ص 14 وجه أ، مرجع سابق.
(4)
السبعة ص 48، مرجع سابق.