الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنكى، ولئلا يتطاول الناس، وجعل عقاب المحكوم إلى خلقه لئلا يتجرؤوا على ولاتهم، وبهذا تستقيم وتستقر الأوضاع.
وقد أُتي المسلمون من خلل في هذا الجانب، والإعراض عن ضوابطه الشرعية بمصائب كثيرة ابتداء من فتنة الدار إلى عصرنا الحاضر.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يبني الإسلام علاقة متوازنة بين المسلمين وغيرهم من حيث الحقوق والواجبات، فالوسطية عدل في المواقف مهما تكن درجة الاختلاف مع الآخرين؛ إذ البشرية كلها فريقان {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} التغابن: 2، فلا يجوز ظلم الكافر وسلب حقوقه، بل لهم حقوق شرعت، وطرائق في معاملتهم سنت، قال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة: 8 (1).
على أنه من المهم أن نعلم أن الوسطية محلها في رضا الله، لا في اجتماع الأطراف والتيارات عليها، من أجل ذلك فلن يسلم أصحاب الوسطية من نقد الجميع {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} البقرة: 120؛ فالمنسلخ بقدر بعده عن الوسطية يصف المتوسط بالغلو، والغالي بقدر بعده عن الوسطية يصف المتوسط بالانسلاخ، فالوسطية لا يراها بدقة من كان بعيداً عنها (2).
-
مظاهر الوسطية في الجانب التشريعي:
الجانب التشريعي في الإسلام يتضمن الأحكام الفرعية التي تنظم حياة الناس اليومية في علاقاتهم الاجتماعية، وفي أحوالهم السياسية والاقتصادية.
وهذه الأحكام التشريعية قد تكفلت كتب الفقه الإسلامي بتفصيلاتها وبيان مسائلها، وما يجوز وما لا يجوز في ضوء الكتاب والسنة.
(1) ينظر: بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، المحور الأول: مظاهر الوسطية في الإسلام د. سليمان بن إبراهيم العايد (ص 51).
(2)
ينظر: أسطر من النقل والعقل والفكر (ص 244).
والواقع أن المنتسبين إلى الإسلام -عدا أهل الوسطية- على طرفي نقيض:
- فئة غالية تريد أن تجعل من كل ما ورد في نصوص الشريعة (1)
تشريعاً ملزماً لكل الناس في كل الأزمان وفي كل الأقطار، وفي كل الأحوال (2)، بفهمها الخاص؛ فسوت بين شرائع الإسلام، فأصبح منهم من يكفر بكل ذنب ولو كان دون الشرك.
- وفئة أخرى تقابل سابقتها، تريد أن تعزل الدين عن شئون الحياة العلمية كلها (3)، فالعادات والمعاملات وشئون الاقتصاد والإدارة والحرب ونحوها، يجب أن تترك للناس، ولا تدخل نصوص الشرع فيها آمرة، ولا ناهية، ولا موجبة ولا هادية؛ وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) (4)؛ وليس لهم فيه حجة (5).
إن هذه القضية تعتبر من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط وسوء الفهم؛ فليست الشرائع على درجة واحدة، وكذلك المحظورات؛ فالشرائع من شعب الإيمان، والمحظورات
(1) القرآن الكريم كل نصوصه قطعية الثبوت ليس ثمة أدنى شك في ذلك. وبعض نصوصه ظنية الدلالة ولهذا تعددت الأحكام التي مناطها على آية واحدة. وكذلك الحديث فيما يخص القطعي الثبوت منه والظني الثبوت. وعند تعارض نصان: يقدم نص القرآن أولا، ثم ما كان من السنة قطعي الثبوت، ثم ما كان ظني الثبوت.
قال ابن القيم في كتابه علام الموقعين (3/ 11): الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حال واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب تحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة.
(2)
مع العلم أن فيها ما صدر عن الجبلة، وما صدر عن العادة، وما صدر عن تجربة البيئة وخبرتها، وما جاء بطريق الاتفاق لا القصد، وخصوصا بالنظر إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم. ولهذا رأى المحققون من علماء الأصول أنها لا تدل على أكثر من الإباحة أو المشروعية، إلا إذا ظهر فيها قصد القربة إلى الله.
ينظر: السنة وكيفية الاستفادة منها http://www.al-shia.org/
(3)
فاكتفوا بمجرد التصديق، وقالوا لا يضر ذنب مع التصديق، وفصلوا الحياة عن شرائع الدين.
(4)
رواه مسلم في صحيحه في قصة تأبير النخل أو تلقيحه، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا، على سبيل الرأي برقم (2363).
(5)
الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أبدى لهم رأيا ظنياً في أمر من أمور المعيشة، ولم يكن له به خبرة، فقد كان من أهل مكة الذين لم يمارسوا الزرع والغرس؛ لأنهم يسكنون بوادي غير ذي زرع، وظنه أصحابه دينا يتبع، وشرعا يطاع، فكان ما كان من عدم بلوغ الثمر غايته، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن ما قاله لهم، لم يكن إلا ظنا في شأن غير ديني، وإنما هو أمر فني بحت، هم أخبر به وأدرى، ولهذا فال:(أنتم أعلم بأمر دنياكم)، قال الإمام النووي مبوباً لهذا الحديث، باب:(وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي).
ينظر: مسند الإمام أحمد التعليق الشيخ أحمد شاكر على حديث رقم (1395)، والمسند الصحيح للإمام مسلم، باب رقم (38)، (ص 1835) ت. فؤاد عبد الباقي.
من شعب الكفر؛ ومن أصول أهل السنة أنه يمكن أن يجتمع في الشخص الواحد كفر وإيمان، ويكون مؤمناً، والوسط هو قول أهل السنة كما هو معلوم في بابه.
وبهذه النبذة المختصرة، يتبين لنا مدى وسطية الإسلام وتوازنه في الجانب التشريعي، بل في جميع جوانب الحياة.
الباب الأول:
الفصل 2 الآيات الدالة على التحذير من الغلو والجفاء.
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دراسة تحليلية للآيات الواردة في التحذير من الغلو والجفاء.
المبحث الثاني: معالم الغلو والجفاء وحدوده.
المبحث الثالث: الاتجاهات المغالية.