الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً - لا له ولا عليه- لكان الأمر خفيفاً، بل لا بد أن توجب له فساداً في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه؛ إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه (1).
وإذا كان التفرق نفسه متضمنا لإضاعة السنن وإفشاء البدع، فلا شك في أن البدع المتقابلة تفرق الدين وتكون من أعظم ما يكون به فساد ذات البين، فهي إذاً من أعظم أسباب وهاء الدين وذهابه، ولا يقف أثرها عند هذا الحد (2)، بل يتعداه إلى آثار أخرى أكثر ضرراً.
2 - مفارقة الجماعة:
ومن آثارها: مفارقة أهلها للجماعة، وشق عصا الطاعة؛ لأنهم اعتمدوا على أهوائهم وفرحوا بما عندهم، ومن اتبع هواه خرج عن جادة الصواب.
وقد حذر الله من ذلك بقوله عز وجل: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} الروم: 31 - 32، وقال صلى الله عليه وسلم:((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)). وفي رواية: ((كلها في النار، إلا واحدة: وهي الجماعة)) (3). فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن وقوع الفرقة في أمته، وسبب هذا الافتراق هو مخالفة أهل الأهواء الضالة - كالقدرية، والخوارج، والروافض وما شابههم- ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة في أبواب أنواع التوحيد، والوعد والوعيد، والقدر والخير والشر، والإدارة والمشيئة، والرؤية والإدراك، وصفات الله عز وجل وأسمائه .. وغير ذلك، فسبب مفارقتهم لجماعة المسلمين هو إحداثهم للبدع المتقابلة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 217).
(2)
ينظر: المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم لأحمد سردار (2/ 795).
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 332). ورواه أبو داود في سننه كتاب السنة برقم (4596) واللفظ له. ورواه الترمذي في سننه أبواب الإيمان، برقم (2778)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن باب افتراق الأمم برقم (3992)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 128، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة برقم (3992)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1429).
بل وصل التفرق بهم إلى أبعد من ذلك، وصدق الله العظيم إذ يقول:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء: 82، فإن كل فرقة من رؤوس الفرق التي خالفت الحق وأهله لا تأتلف إلا على الأصل الذي خالفت به الحق؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حاكياً صنيعهم:" ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينا يوالون عليه ويعادون"(1)، ثم يكون بين أتباعها من الاختلاف الشديد ما يجعل الفرقة الأصلية تنقسم إلى فرق عديدة، ثم يكون بين تلك الفرق المنقسمة عن الفرقة الأم من العداوة والبغضاء والتنافر ما يصل إلى درجة أن تكفر كل فرقة جميع الفرق التي تنتسب معها إلى الفرق الأصلية -فضلا عن غيرها من الفرق المخالفة لها (2). وصدق عليهم ما روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال:"من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"(3).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة"(4).
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} البقرة: 253، فأخبر سبحانه أن الأمم لما اختلفوا بعد أنبيائهم وقع القتال بين بعضهم البعض.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إن بني إسرائيل كانوا على شريعة ومنهاج، ظاهرين على من ناوأهم، حتى تنازعوا في القدر، فلما تنازعوا اختلفوا وتباغضوا وتلاعنوا واستحل بعضهم حرمات بعض، فسلط عليهم عدوهم فمزقهم كل ممزق"(5)، وكما وقع الاقتتال وغيره في فرق الأمم قبلنا؛ فقد وقع في هذه الأمة أيضاً، قال ابن حزم رحمه الله: " اعلموا -رحمكم الله- أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله تعالى قط على أيديهم خيراً، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية، ولا رفع للإسلام راية، وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين، ويسلون السيف على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين .. أما الخوارج والشيعة فأمرهم في هذا أشهر من أن يتكلف ذكره
…
، وأما المرجئة فكذلك،
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 276).
(2)
ينظر التنبيه والرد (ص 91)، الفرق بين الفرق (ص 361).
(3)
تهذيب تاريخ دمشق (7/ 143).
(4)
الاستقامة (1/ 42).
(5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 700) برقم (1133).