الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
ثالثاً: المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان
.
المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان هو: خطؤهم في تصور التوحيد الذي أرسل لأجله الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، وطُلبَ من العباد تحقيقه، بجعلهم عقول الناس هي الحاكمة القاضية فيما يؤخذ وما لا يؤخذ من العقائد.
ومنشأ الغلط هذا انبنى عليه عند أهل الأهواء والبدع الحكم بإيجاب (1) أمور سكت الشرع عن بعضها ونهى عن بعضها، واستقبحوا (2) أموراً ورد الشرع بتحسينها فكان لازم قولهم أن رُسل الله عليهم السلام قصروا عن البيان عمداً امتحاناً للمكلفين مع أن الحق في خلاف هذا، فقد نص الله على أن الرسل، إنما أرسلت لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأنزل علينا في كتابه المبين على لسان رسوله الأمين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة: 3 (3).
وما هذا الانحراف إلا نتيجة الغلو في تعظيم العقل وإقحامه فيما لا يدركه، ولا يحيط به، حتى أصلوا أصولاً عقلية، وكفروا أو فسقوا أو خطئوا من خالفهم (4)، وخاضوا جميعاً فيما لا تدركه العقول من الخفايا التي أعرض عنها السلف، فانقسموا إلى فرق متباينة متقابلة منحرفة في توحيد الألوهية.
-
رابعا: أثر اجتماع الرد على البدع المتقابلة في موطن واحد
.
أتت هذه الآية للرد على من نفى أو عطل وظيفة العباد التي من أجلها خلقوا، وللرد كذلك على من اتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعدم إكمال الشرع فزادوا وابتدعوا عبادات لا أصل لها، فدلت هذه الآية بمفهومها على منهج أهل السنة والجماعة وهو: امتثال أمر الله ونهيه، إفراده بالعبادة، وألا يعبد إلا بما شرع.
(1) كما فعلت المعتزلة بمسألة الوجوب على الله بإثابة الطائع وعقاب العاصي.
(2)
كما فعلت القدرية في مسألة خلق أفعال العباد.
(3)
ينظر: تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (ص 280).
(4)
درء التعارض (1/ 277).
وهذه الآية هي حقيقة الصلة بين الله عز وجل وبين الثقلين من خلقه، فهي تأتي بعد مرتبتي الفطرة والميثاق، فبعد أن فطر الله الخلق أول الأمر على الإسلام (1)، ثم أخذ عليهم الميثاق على مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها (2)، ها هو عز وجل يعلن الصلة بينه وبين خلقه وأنها هي الغاية من وجودهم، وهذا هو موضوع جميع رسالات الأنبياء والرسل عليهم السلام (3).
وفي هذه الآية سر الأمر كله وعلته وحجته، وعليها مدار الأمر كله، قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن استعرض ما أورده الله في مجمل سورة الذاريات:" فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} الذاريات: 56 - 57، كان هذا مناسباً لما تقدم مؤتلفاً معه: أي هؤلاء الذين أمرتهم إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقاً ولا طعاماً"(4).
(1) قال عز وجل في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء))، أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم (2865).
(2)
قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف: 172.
(3)
ينظر: دراسة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ، أ. د. محمد عبد الرحمن أبو سيف الجهني (ص 2)، مجلة البحوث الإسلامية عدد (91).
(4)
مجموع الفتاوى (8/ 42 - 43).