الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما نلحظ الخلل الكبير الذي وقعت فيه الشيعة، حينما قالوا بعقيدة البداء على الله عز وجل، وهذه العقيدة تعارض القضاء والقدر؛ لأن وصفهم الله عز وجل بالبداء يستلزم منه وصفه سبحانه وتعالى بالجهل، وعلى ذلك فلا علم ولا كتابة ولا إرادة ولا خلق، فعن طريق قولهم بالبداء يلزمهم نفي القضاء والقدر ومحو ما كتبه سبحانه وتعالى، أما متأخرو الشيعة فقد قالوا بقول المعتزلة، فبذلك زاد الخلل عندهم في هذا الركن (1)، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" وأما عمدتهم في النظر والعقليات، فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة، ووافقوهم في مسائل الصفات والقدر"(2).
أما المعتزلة فقد وقعت في خلل كبير في هذا الركن من أركان الإيمان، حيث قالوا: بأن الله يفعل المفعولات ويخلق المخلوقات لحكمة مخلوقة منفصلة عنه، فهم أثبتوا الحكمة من أفعال الله تعالى كما أثبتها أهل السنة والجماعة، ولكنهم انحرفوا عن السلف حين أثبتوا لأفعال الله حكمة منفصلة عنه سبحانه وتعالى لا ترجع إليه، وحصروا هذه الحكمة في المخلوق ثم زعموا أن هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العبد خالقاً لأفعاله، والله ليس خالقاً لها حتى لا تنتفي صفة العدل عنه، ثم تمادوا وقالوا بوجوب فعل الصلاح والأصلح وما تحته من مسائل تعارض وتخالف هذا الركن الجليل من أركان الإيمان، وهم قد شابهوا الخوارج في تخليدهم لمرتكب الكبيرة في النار، فلازم قولهم رد قضاء وقدر الله سبحانه وتعالى في هذا العاصي، بحيث يجعلونه في أهل النار أن والله قد يكون كتبه في أهل الجنة، كما يوجبون على الله إدخال الطائع الجنة وقد يكون الله عز وجل كتبه مع أهل النار، فليزمهم رد القضاء والقدر السابق، ولهم مخالفات أخرى في هذا الركن جاءت عن طريق تماديهم وغلوهم في هذا الباب (3).
-
رابعاً: محاولة إدراك حقيقة القدر بالعقل المجرد، ومخالفتهم للنصوص:
(1) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 169)، ومقالات الإسلاميين (1/ 65)، والفرق بين الفرق ص (15 - 17).
(2)
ينظر: منهاج السنة (1/ 70)، والشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، لهاشم الحسيني (ص 240).
(3)
ينظر: الفرق بين الفرق (ص 83)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 63)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص 69)، مقالات الإسلاميين (1/ 235)، تناقض أهل الأهواء (1/ 362) وما بعدها.
تكلف المبتدعة تقديس العقل، فردوا به نصوص الوحي، زاعمين كفاية العقل في إدراك الفرق بين الحسن والقبيح، وبهذا يكون ضلالهم في موقفهم من النصوص الشرعية مضاعفاً، حيث تركوا دلالات تلك النصوص واعتمدوا على شبهات عقلية زعموا أنه لا يمكن اعتبار دلالات النصوص الشرعية معها (1).
يقول ابن قتيبة رحمه الله (2) عنهم: " ولما اطرد لهم القول على ما أصلوه، ورأوه حسن الظاهر قريباً من النفوس، يروق السامعين ويستميل قلوب الغافلين، نظروا في كتاب الله فوجدوه ينقض ما قاسوا، ويبطل ما أسسوا، فطلبوا له التأويلات المستكرهة، والمخارج البعيدة، وجعلوه عويصاً وألغازاً، وإن كانوا لم يقدروا من تلك الحيل على ما يصح في النظر ولا في اللغة"(3).
فالأساس إذاً في مخالفة تلك الفرق للنصوص الشرعية إنما يرجع إلى شبهات عقلية سلموا بها قبل النظر في دلالات النصوص الشرعية، ثم نظروا إلى النصوص الشرعية بعد ذلك وفسروها بما يوافق تلك الشبهات، وهذا ما لا يُعجز كل مبطل، والذي جلب لهم هذا الخلط والاضطراب والحيرة: أنهم رتبوا إثباتهم لتعلق أفعال العباد بقدرة الرب وقدرة العبد على إدراكهم لكيفية الصلة بين القدرتين، لا على مجرد التسليم بما دلت عليه الضرورة من ثبوتهما (4)،
ومن ثم توهموا أن هناك معارضة بين العقل والنقل ولما كان العقل عندهم مقدساً منزهاً عن الخطأ، نفوا وعطلوا وأولوا ما دل عليه النقل، وركنوا إلى قواعدهم العقلية وأصولهم الفلسفية، وجعلوها عمدة في ردّ ما ورد به الشرع بدعوى معارضته لها (5).
(1) ينظر: الخلاف العقدي في باب القدر دراسة تحليلية نقدية لأصول القدرية والجبرية في أفعال العباد، د. عبد الله بن محمد القرني (ص 10، 20).
(2)
هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، خطيب أهل السنة وأحد أئمة السلف، من مؤلفاته: تفسير غريب القرآن، تأويل مختلف الحديث، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية وتأويل مشكل القرآن وغيرها، توفي سنة 276 هـ.
ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 296)، شذرات الذهب (2/ 169).
(3)
الاختلاف في اللفظ (ص 24)، وينظر الفصل لابن حزم (3/ 89).
(4)
إذا كان عدم إدراك كيفية العلاقة بين خلق الله لخاصية الأسباب وبين ثبوت تلكك الخاصية للأسباب لا يقدح في التسليم بهذين الأصلين فكذلك ينبغي ألا يقدح عدم إدراكنا لكيفية الصلة بين قدرة الرب وإرادته وبين قدرة العبد وإرادته في عدم التسليم بثبوت تعلقهما بأفعال العباد؛ لأن إثبات تعلقهما بأفعال العباد إنما هو من إثبات العلم بالوجود لا من إثبات العلم بالكيفية.
ينظر: الخلاف العقدي في باب القدر (ص 45) وما بعدها.
(5)
ينظر: النفي في باب صفات الله عز وجل (ص 91 - 92)، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير:"درء تعارض العقل والنقل" في إبطال هذه الدعوى.
ومن هذه الشبهات التي ظل بسببها المبتدعة في باب القدر:
أ-قولهم: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله لبطل التكليف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولسقطت بعثة الرسل، ولقبحت المساءلة والمحاسبة والمعاقبة؛ لأنه لا يجوز أن ينهى الله عما خلقه، ولا أن يأمر بما يفعله هو؛ إذ لا فائدة من ذلك، كما أنه لا يجوز أن يثيب ويعاقب على فعله (1).
ب- أنه يحسن المدح على الحسن من أفعال الناس والذم على قبيحها دون المدح والذم على حسن الهيئة وضده، أو طول القامة وقصرها، فدل هذا الفرق على أن أفعال العباد محدثة من جهتهم بخلاف الهيئة والصورة فإنها من عند الله (2).
ت- أنا "نحتاج في هذه الأفعال إلى آلات وقدر وارتفاع الحواجز؛ لأنه إذا أراد الرامي الإصابة فلا بد له من قوس وآلة، وألا يكون بينه وبين المرمى حاجز، وأن يكون عالماً، وأن يكون قوياً ليبلغ الرمي بشدة اعتماده، ولو كان من فعل الله تعالى لما احتاج إلى ذلك؛ لأنه تعالى فيما يفعله لا يحتاج إلى هذه الأمور، تعالى الله عن ذلك"(3).
وكل هذا مردود بالكتاب والسنة والإجماع (4)، بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس بعد الحق إلا الضلال، مع ضرورة التسليم بالشرع والقدر، واستحالة التعارض بينهما (5).
(1) ينظر: شرح الأصول الخمسة (334 - 335).
(2)
ينظر: شرح الأصول الخمسة (ص 332).
(3)
مختصر أصول الدين للقاضي عبد الجبار (1/ 238).
(4)
منهج السلف الصالح جمعوا بين الدليل المنقول، والدليل المعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل، وجمعوا بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته، وبهذا نعرف أن كلاً من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ينظر: كتاب القول المقيد على كتاب التوحيد، شرح ابن عثيمين (ص 209).
(5)
ووجه استحالة التعارض بين الشرع والقدر أن كلاً منهما معلوم من الدين بالضرورة، والضرورة من حيث هي ضرورة لا يمكن أن تكون محتملة أو قابلة للإبطال؛ لأن حقيقة كونها ضرورية أن تكون ثابتة بإطلاق، وما كان كذلك لم يقبل المعارضة بدعوى المناقض؛ لأن ما كان ثابتاً في نفسه يستحيل أن يدل دليل صحيح على عدم ثبوته، وهذه قواعد من المسلمات التي لا يمكن الشك فيها مع تصورها على وجهها. ينظر: الخلاف العقدي في باب القدر (ص 46).
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية عدم التعارض بين هذين الأصلين، وبين أن كلاً منهما أصل ضروري لا يمكن نفيه، وبنى على ذلك الرد على كل من طائفتي القدرية والجبرية في دعوى كل منها أنهم قد أخذوا بما هو مقتضى الضرورة، وأن كلا منهما قد خالف ما ضرورة في حقيقة الأمر، وفي بيان وجه مخالفتهم لهاتين الضرورتين. ينظر: منهاج السنة (3/ 239 - 240).