الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعقل بالإيمان بأن الله تكلم حقيقة -لا مجازاً أو خلقاً-بالكتب السماوية التي أنزلها على رُسله -عليهم الصلاة والسلام- (1).
لذا فإن الخلق قد اختلفوا في تنزيل كتابه سبحانه اختلافاً انقسم به الحق والباطل، والسنة والبدعة، وتضاد المؤمن والكافر، والسني والبدعي، ويمكن تصنيف اختلاف الخلق في تنزيل الكتاب إلى نوعين (2):
الأول: اختلاف في جنس التنزيل
، وهو بين المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون يؤمنون بأصل التنزيل ويثبتون كتاب الله منزلاً منه سبحانه على رسوله فهو كلام الله والرسول مبلغ، أما الكفار فأنكروا أصل التنزيل وأبطلوه وزعموا أن الكتاب قول الرسول أو تعلمه من بشر.
الثاني: اختلاف في صفة التنزيل
، وهو واقع بين أهل السنة وبين أهل البدع والهوى من فلاسفة ومتكلمة، فأهل السنة يقولون: كتاب الله كلامه، خرج منه بحرف وصوت، وسمعه منه جبريل، وبلغه جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، وبلغه الرسول لأمته سمعه منه أصحابه وتلقته الأمة منهم (3)، أما أهل البدع من أهل الكلام فقد اتفقوا على كلمة واحدة هي أن القرآن مخلوق (4)،
إما خلقه الله في جبريل أو في محمد أو في جسم آخر
(1) أسباب ظهور هذا القول: أنهم لما ظنوا أن إثبات الصفات يلزم منه تعدد القدماء، نفوا الصفات، ومن جملة ذلك صفة الكلام، ومنه القرآن الكريم. كما أنهم لما سمعوا القرآن من المخلوقين، ولم يفرقوا بين المسموع من الله مباشرة، وبين المسموع بواسطة العباد، ظنوا أنه مخلوق، لأنه يسمع من مخلوق! ! .
ينظر: القرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم (1/ 477).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (12/ 13 - 14، 119 - 121)، والإيمان بالكتب لأبي سيف الجهني (ص 31 - 32).
(3)
ينظر: عقيد السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني (ص 165 - 166)، ولمعة الاعتقاد (ص 77)، ومجموع الفتاوى (12/ 235، 241).
(4)
الجعد بن درهم كان أول من أظهر القول بخلق القرآن بعد كفار قريش عندما قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} المدثر: 25، فكان تابعاً لهم؛ لأن من زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولاً للبشر. ينظر: شرح السنة للبغوي (1/ 168)، ومنهاج السنة (1/ 309)، ومجموع الفتاوى (13/ 177).
قال الدارمي رحمه الله: " وقوله -أي الوليد بن المغيرة-: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} المدثر: 25، وقول هؤلاء الجهمية: "هو مخلوق" واحد لا فرق بينهما، فبئس التابع، وبئس المتبوع". الرد على الجهمية (ص 184).
غيرهما (1)، أو أن كلام الله معنى قائم بالنفس (2)، كما ظهر من يجعلون كلام الخالق هو عين كلام المخلوق (3). وأما الفلاسفة فجعلوه فيضاً فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال أو غيره. وكلا القولين كفر وضلال.
من أجل ذلك فرط أهل البدع في الإيمان بالكتب، فعارضوا القرآن الكريم -المهيمن على الكتب السابقة- بالآراء والأذواق والعقول والأقيسة والمواجيد.
ومن عارض آيات الله المنزلة بما سبق من غير سلطان أتاه دخل في معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} غافر: 35، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} غافر: 56، وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، ولا يجوز معارضته بغير ذلك (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك؛ وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله؛ بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله؛ فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة"(5).
(1) كالجهمية والمعتزلة: ومذهبهم أن كلام الله تعالى مخلوق؛ خلقه في غيره، وعلى هذا فالقرآن عندهم مخلوقٌ لم يكن ثم كان. ينظر: المختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبار (ص 528 - 529)، ومقالات الإسلاميين (2/ 256).
(2)
كالكلابية والأشاعرة؛ لأن مذهبهم أن كلام الله معنى قائم بالنفس، ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزأ، ولا يتبعض، ولا يتغاير، وأنه معنى واحد قائم بالله عز وجل، إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عُبِّر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبِّر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، فهو عند الكلابية حكاية عن كلام الله تعالى، وعند الأشاعرة عبارة عن كلام الله، وعلى هذا فالقرآن عندهم ليس بكلام الله على الحقيقة، وهو مخلوق. ينظر: مقالات الإسلاميين (2/ 257، 258)، ومجموع الفتاوى (12/ 165).
(3)
كما هو معتقد الحلولية والاتحادية: الذين يجعلون صفة الخالق هي عين صفة المخلوق، فقالوا: الذي نسمعه من القراء هو كلام الله، وإنما نسمع أصوات العباد، فأصوات العباد بالقرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة .. أما الجهمية ومن وافقهم فقد زعموا أن أصوات العباد ومدادهم مخلوقة، فيكون كلام الله عز وجل مخلوقاً.
ينظر: مجموع الفتاوى (12/ 82).
(4)
ينظر: درء التعارض (5/ 208).
(5)
درء التعارض (5/ 206).
أما أهل السنة والجماعة فإن أصولهم لا تقبل من أحد أياً كان أن يعارض ما جاء في كتاب الله عز وجل، لا برأي ولا عقلٍ ولا قياسٍ ولا ذوقٍ ولا وجد، قال الطحاوي رحمه الله: " ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، ونزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين
محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيءٌ من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين" (1).
وأما كون الإيمان بأن القرآن كلام الله داخلا في الإيمان بالكتب؛ فإن الإيمان بها إيمانا صحيحا يقتضي إيمان العبد بأن الله تكلم بها بألفاظها ومعانيها، وأنها جميعا كلامه هو؛ لا كلام غيره، فهو الذي تكلم بالتوراة بالعبرانية، وبالإنجيل بالسريانية، وبالقرآن بلسان عربي مبين (2).
وبالجملة فإن القول بخلق القرآن أصل البدع، وهذا باب واسع ليس هذا موضعه، إلا أن نعلم أن من قال بهذا القول قد فرط في الإيمان بكتب الله المنزلة.
(1) شرح العقيدة الطحاوية (2/ 428).
(2)
ينظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 200).