الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المعاني المستنبطة من الآيات الدالة على الوسطية
.
لما كان دين الإسلام هو خاتم الأديان السماوية وأفضلها وخيرها، فإن الوسطية هي أبرز خصائصه، وأهم ما يميزه عن سائر الأديان الجانحة إلى الإفراط أو التفريط؛ ولذا كان منهج الإسلام وسطاً معتدلاً في الأمور كلها، قال الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153 (1).
قال الإمام الطحاوي (2)
رحمه الله: "ودين الله في الأرض والسماء واحد
…
وهو بين الغلو والتقصير" (3).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد"(4).
والحق أن من تدبر القرآن الكريم فلن يعجز عن استخراج جملة وافرة من الملامح الدالة على وسطية أهل الحق والإيمان؛ فقد جاءت الآيات مستفيضة لترسم لنا منهج الوسطية، وتدلنا عليها بأساليب عدة، تصريحاً وإيماءً، مفصلاً ومجملاً، خبراً وإنشاءً، أمراً ونهياً (5).
فنجد عند التدبر في آيات القرآن الدالة على الوسطية، أنها تشمل معان متعددة، منها:
أولاً: بيان صحة معتقد أهل الحق ووصفه وإيضاحه والأمر باتباعه
.
الوسطية مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، وهي محور تميز هذه الأمة؛ ولأن الله لا يدع عباده حيارى من غير بيان، فقد كان لآيات كتابه العزيز اهتمام بهذا المعنى؛ فالشارع الحكيم
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 138 - 140)، والإسلام ينهى عن الغلو ويدعو إلى الوسطية أ. د. سليمان الحقيل (ص 55).
(2)
هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي، محدث الديار المصرية ومفتيها، برز في علوم كثيرة، وله مؤلفات نافعة منها شرح العقيدة الطحاوية، توفي سنة 321 هـ.
ينظر: وفيات الأعيان (1/ 71 - 72)، سير أعلام النبلاء (15/ 27 - 33)، البداية والنهاية (11/ 174)، لسان الميزان (1/ 274 - 282).
(3)
شرح العقيدة الطحاوية (533 - 534).
(4)
مدارج السالكين (2/ 517)، وينظر: مفتاح دار السعادة (3/ 303).
(5)
ينظر: الوسطية في ضوء القرآن الكريم (ص 2).
أراد من عباده أن يتصفوا بهذا الوصف ويكون لهم منهجاً ومسلكاً، فأتت الآيات بشكل لا يحصى كثرة شاهدة لأهل الحق دالة على منهجهم.
لذا نجد أن القرآن الكريم اعتمد في أسلوبه على إبراز منهج أهل الحق والأمر به، إما من خلال آيات العقيدة أو آيات الأحكام والمعاملات؛ واعتمد في خطابه أسلوب المقابلات (1)؛
وهذا الأسلوب فيه الدلالة الواضحة على رسم الصراط المستقيم وتحديد معالمه (2).
وكما أن آيات الوسطية تدل على وسطية أهل الحق بين أطراف الباطل، فهي تدل كذلك على إبراز منهج الحق وتجليته والأمر بلزومه والاستقامة عليه.
لذا نجد أن الاستقامة من أبرز مزايا وخصائص الوسطية في الإسلام، والاستقامة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} هود: 112، وفي قوله:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الشورى: 15، أكبر شاهد على ذلك.
وقد عرفها القرطبي رحمه الله (3) بقوله: "الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين أو الشمال"(4).
ونقل ابن القيم رحمه الله تعريف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: " قال عمر رضي الله عنه: ((الاستقامة أن يستقيم على الأمر والنهي، لا يروغ روغان الثعالب)) "(5)، ثم عرفها ابن القيم بقوله: "فالاستقامة كلمة جامعة، أخذت بجماع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة
(1) ذلك بأن يقابل بين الأشخاص، ويقابل بين الأعمال، ويقابل بين النتائج، فإذا تحدث عن المؤمنين أتبعه بالحديث عن الكافرين، وإذا تحدث عن العاملين المخلصين أردفه بالحديث عن القاعدين المهملين، وإذا تحدث عن عاقبة المتقين قرنه بالحديث عن عاقبة المكذبين، وعلى هذا السنن يجري الخطاب في القرآن الكريم.
ينظر: ومن يعمل من الصالحات، موقع إسلام ويب، http://articles.islamweb.net/.
(2)
الصراط المستقيم: يمثل قمة الوسطية وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة (7) والبقرة (142) حجة قاطعة في ذلك.
ينظر: الوسطية في القرآن الكريم للصلابي (ص 64).
(3)
هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بسكون الراء والحاء المهملة- الأنصاري القرطبي المالكي، أحد مشاهير المفسرين وكتابه "الجامع لأحكام القرآن" من أوسع كتب التفسير يميل فيه إلى تتبع الأحكام الفقهية، توفي سنة (671 هـ).
ينظر: طبقات المفسرين للداودي (ص 246)، والمفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات لمحمد بن عبد الرحمن المغراوي (1/ 287)، الوافي بالوفيات للصفدي (2/ 122).
(4)
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (9/ 107).
(5)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم (2/ 104).