الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ترتب على إخراج العمل من حقيقة الإيمان، وعزل الحياة الدنيا عن الدين والتصور الجبري للقدر، أمور عظيمة منها: ترك الجهاد في سبيل الله، وعدم السعي في عمارة الأرض بمنهج الله تعالى، وترك المجالات الحيوية في الأمة؛ كالسياسة والاقتصاد والفكر والثقافة وبناء المجتمع ومعالجة القضايا المستجدة، ما أدّى إلى الاستسلام التام للاستبداد والظلم والطغيان، وغيرها من النتائج المؤلمة (1).
وبالجملة فإن هؤلاء حينما اعتقدوا بأن العبد ليس مسؤولاً عن أفعاله-حسب فهمهم-، أخرجوا العمل عن حقيقة الإيمان، ليقدموا العذر لأنفسهم عن تبعية العمل والمسؤولية عنه (2)، فكان للجبر تأثيرٌ واضحٌ على مسائل الإيمان، لدرجة أنهم يجعلون كل أفعالهم طاعات -كما سبق-.
-
سادساً: دعواهم استحالة (الجمع بين النقيضين):
هذه الضرورة العقلية عندهم انبنى عليها القول: بامتناع التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان، ومقصودهم بالنقيضين هنا اجتماع شعب الإيمان وشعب الكفر في الشخص الواحد، وهذا ممتنع عندهم، بناء على أن التقابل بين الإيمان والكفر هو من باب التقابل بين السلب والإيجاب، فاستناداً لهذه الضرورة العقلية أحالت الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة وقوع التفاوت في الإيمان.
فالخوارج التزمت بهذا الأصل فكفروا مرتكب الكبيرة وذلك لقولهم بدخول العمل في الإيمان مع التزامهم بدعوى استحالة التفاوت، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك: أن سلبوا الإيمان عن صاحب الكبيرة، وأثبتوا له ضده وهو الكفر؛ لأنه لا واسطة بين الإيمان والكفر.
ثم لما نبغت المعتزلة بعد ظهور فرقة الخوارج، استظهرت صحة ذاك الأصل الذي استندت إليه الخوارج في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة -وهو دعوى استحالة التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان- لكنها أرادت؛ لما رأت تنادي أهل السنة فيما بينهم بإنكار بدعة الخوارج، والتشنيع عليهم، ومخالفتهم للضرورة الشرعية المستقرة بدلائل الكتاب والسنة،
(1) ينظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة، لعلي بن بخيت الزهراني (ص 469).
(2)
وما ذلك إلا ليسلموا من مسائل [الأسماء والأحكام] التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا.
والإجماع على عدم تكفير مرتكب الكبيرة، ورأت أيضاً مخالفتهم للضرورة العقلية في مساواتهم بين المستحق للعذاب الأليم وهو الكافر، وبين من هو دون ذلك وهو مرتكب الكبيرة عندهم، أرادت الجمع بين الضرورتين: العقلية التي تقضي باستحالة التفاوت والضرورة الشرعية التي تدل على عدم استحقاق مرتكب الكبيرة لاسم الكفر، فتكايست لذلك لكنها في الوقت ذاته تناقضت من حيث أرادت الفرار من التناقض، وابتدعت القول:(بالمنزلة بين المنزلتين)، والتي حقيقتها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، وفي الوقت ذاته عدم تكفيره، والذهاب إلى إطلاق اسم "الفاسق" عليه.
أما المرجئة بشتى فرقها، فإنها ذهبت هي أيضاً إلى سلامة الأصل الذي استند إليه كل من الخوارج والمعتزلة، وهو استحالة التفاوت في حقيقة الإيمان بناء على استحالة الجمع بين النقيضين- ورأت أيضاً أن ما التزمت به كلتا الطائفتين مخالف للدلائل الشرعية الدالة على ثبوت وصف الإيمان لمرتكب الكبيرة، فدعاها ذلك إلى إخراج العمل من مسمى "الإيمان" ظناً منها أن سبب ضلال الفرقتين هو إدخالُهما العمل في حقيقة الإيمان، ولم توفق إلى معرفة أن سبب الضلال عند التحقيق، هو التزامهم جميعاً بتلك الشبهة التي تفرعت عنها جميع تلك اللوازم الفاسدة.
فتلك الشبهة قد جمعت تلك الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة، وإن اختلفوا في بيان حقيقة الإيمان عند كل منها؛ سواء من جعل هذه الحقيقة خصلة واحدة: وهم المرجئة، أو جعلها حقيقة مركبة -وهم الوعيدية-، فهم متفقون على التزام ذاك الأصل وهو دعوى استحالة التفاوت والتبعض في الإيمان، ذلك أنهم جعلوا الإيمان خصلة واحدة: فجعلوا قبول التفاوت فيه يستلزم ذهابه بذهاب بعضه واضمحلاله، ذلك لأن القول بنقص الإيمان يلزم منه أن يخلفه نقيضه وهو الكفر فيقوم بالعبد كفر وإيمان وهو ممتنع؛ لأنه من باب اجتماع النقيض مع نقيضه في شخص واحد، لذا امتنع القول بإمكان التفاوت (1).
(1) ينظر لما سبق: دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد، لعيسى النعمي (123 - 139).
ولا يخفى أن الانحراف عن جادة الصواب في فهم معنى الإيمان أمرٌ له خطورته؛ "فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدَث، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء؛ إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق"(1)، وقد أثمر هذا الخطأ -عند أولئك-أخطاء أخرى، أهمها اثنان:
أولها: يتعلق بموضوع زيادة الإيمان ونقصانه؛ فقد أطبق المرجئة على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، متأولين النصوص الكثيرة الواردة في ذلك.
والآخر: يتعلق بتحقيق أصل التوحيد وعدمه (2).
(1) مجموع الفتاوى (7/ 395).
(2)
ينظر: المسائل العقدية المتعلقة بالحسنات والسيئات، د. صالح سندي (1/ 181).