الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك التبرُكات البدعية بالآيات القرآنية، أو المصحف، أخذهم الفأل من المصحف، أو من الآيات، وذلك بفتح القرآن، ثم ينظر على ماذا يقع عينه، فيتفاءل بذلك، أو يتشاءم! ! ، ومعلوم أن القرآن الكريم ما أنزل لهذا، ولكن أهل البدع يبتدعون في الدين ما يشتهون (1)، قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وأما استفتاح الفأل في المصحف؛ فلم ينقل عن السلف فيه شيء
…
، وقد حرم الله الاستقسام بها -أي: الأزلام- كالضرب بالحصى، والشعير، واللوح والخشب والورق المكتوب عليه حروف أبجد، وأبيات شعر، ونحو ذلك: منهي عنه؛ لأنها من أسباب الاستقسام بالأزلام" (2).
ومن ذلك تعليق الآيات القرآنية في البيوت، واتخاذها زينة، أو تبركاً، أو كتابتها على الستور، أو اتخاذها رسوما فنية، فهذا كله لم يثبت عن السلف الصالح رضي الله عنهم (3).
ومن التعظيم الغير مشروع، كتابة القرآن على القبور، أو على الأضرحة، فإن هذه بدعة منكرة (4).
ومن ذلك جعلهم القرآن الكريم-كلام رب العالمين-، بدلا عن الكلام (5)، وقد نهى عن هذا السلف، قال إبراهيم النخعي رحمه الله:" كانوا يكرهون أن يتلوا الآية عند شيء يَعرِضُ من أمر الدنيا"(6)، فالسلف منعوا الاستشهاد بالقرآن على غير المراد الذي من أجله أنزل، وإيراده اقتباسا أو أساسا على الوجه الذي نزل هو المقصود (7).
فالتبرك بالقرآن لا يكون بما يستحسنه العقل، ولا بما يقوله بعض الناس من دون دليل من النقل، وفي حقيقة الأمر أن هذا مخالفة للسلف، بل إنه في حد ذاته مخالفة للقرآن الكريم، وطريق للغلو في الإيمان بالكتب.
-
ثانياً: زعم تعظيم القرآن:
(1) ينظر: الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ (ص 74).
(2)
مجموع الفتاوى (23/ 66 - 67).
(3)
ينظر: كشاف القناع (1/ 137).
(4)
ينظر: القرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم دراسة عقدية (1/ 634).
(5)
كمن يَهِم بالحاجة فتأتيه من غير طلب، فيقول كالمازح: جئت على قدر يا موسى! ، أو يقول آمر لمن يشتري له البقل: من بقلها وقثائها، أو ملأ قدحا، وجاء به، وقال: كأسا دهاقا، أو قال عند الكيل أو الوزن: وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون
…
وغير ذلك.
(6)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 15)، ينظر: التبيان للنووي (ص 118).
(7)
ينظر: كشاف القناع (1/ 343).
إن كثيراً من الفرق الإسلامية المبتدعة يصح أن يقال عنها: إنها كانت نواة للقرآنيين (1)،
فالرافضة بل والشيعة بجميع فرقها لا تقبل السنة التي رويت عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا الخوارج لا يقبلون ما صح عند أهل السنة من الأحاديث، وهكذا المعتزلة لا يقبلون من السنة إلا ما وافق مذهبهم، وظنوه مؤكدا لمنهجهم (2).
فنبذ السنة وإظهار تعظيم القرآن الكريم فقط دعوات ظهرت منذ القِدم، تقل وتكثر بحسب ضعف وقوة أهل السنة، والخوارج أول من "ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن"(3)، وهؤلاء الخوارج وإن كانوا في الظاهر معظمين للقرآن لكنهم في الحقيقة غير معظمين له؛ وذلك لأنهم يفهمونه مجرداً عن بيان السنة النبوية، وبسبب هذا ضل الخوارج، و"صاروا يتبعون المتشابه من القرآن؛ فيتأولونه على غير معرفة بمعناه، ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين، الذين يفهمون القرآن"(4).
فالدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن دون السنة ليست وليدة اليوم (5)، ولم يظهروا كمدرسة هكذا فجأة، وإنما هي ميلاد اجتماع وأخلاط لآراء العقلانيين، الذين ظنوا المخالفة بين العقل والشرع المبين، وحاولوا إبعاد النصوص عن ميادين الدنيا والدين، ومن ذلك القرآن الكريم، ولما كان متواترا ثبوته، وأن رده كفر صريح، فإنهم زعموا أنهم يعتمدون عليه، وذلك حتى يفسروا آياته حسب مشتهياتهم ومراداتهم، فتركوا لذلك السنة، وهذه فكرة عقلانية قديمة أصبحت ظاهرة في هذا العصر في كثير من العقلانيين إن لم يكن في كلهم (6).
(1) هم: تيار إسلامي ظهر في باكستان والهند ومصر ومنشؤهم الهند وهم من المعتزلة القدرية ومؤسسهم هو عبدالله جكر الوي، يطلقون على أنفسهم "أهل القرآن" خاصة وهم لا يأخذون بالأحاديث ولا السنة الشريفة ويكتفون بالقرآن كمصدر وحيد.
وأسباب ظهور هذه الفرقة اغترار كثير من شباب المسلمين بالحضارة الغربية المدنية، واعتقاد أن سبب تخلفهم هو الإسلام! ! فأرادوا الانفلات منه فلم يروا طريقة إلا ترك السنة، وفهم القرآن على ما يريدون، وعلى ما يوافق الحضارة الغربية! ! .
ينظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة لخادم حسين بخش (ص 23).
(2)
ينظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة (ص 78، 82، 88).
(3)
الرد على البكري (2/ 487)، وينظر: مجموع الفتاوى (3/ 355).
(4)
مجموع الفتاوى (13/ 210).
(5)
مجموع الفتاوى (19/ 86، 89).
(6)
ينظر: القرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم (2/ 1141 - 1142).
وأصل دين المنكرين للسنة قائم على تعظيم القرآن الكريم، ولكن هذا التعظيم إنما هو ظاهري لا حقيقي (1)، ومموه لا مُذَهَّب.
كما أن المبالغة في مسألة الإعجاز العلمي (2)
للقرآن الكريم ولي أعناق الأدلة، منطلقة من تعظيمهم للقرآن، حيث بالغوا فيه إلى حد يخرجه عن الأصل الشرعي، فدخلوا إلى الرموز الباطنية والإشارات الصوفية ومسألة الأرقام، أو التكهن بالأحداث من خلال ربط الآيات بعضها ببعض (3)، وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا، وبين ما جاء في القرآن، ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة (4).
كما أن من البدع قول: إن الإعجاز واقع بجميع القرآن لا ببعضه كما هو قول بعض المعتزلة، وهو أحد الأقوال في مسألة القدْر المعجز من القرآن، فهو مردود بنص القرآن وأن التحدي جاء بسورة واحدة منه (5).
وكل شيء ينبغي أن يأخذ قدره في البيان، فمسألة الإعجاز من أعظم مسائل الدين؛ لأن القرآن مما اتفق عليه أهل القبلة في الجملة، وأقروا بكونه أظهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم،
(1) لأن من الإيمان المفصل بالقرآن الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بغير القرآن في سنته القولية والفعلية، وفي القرآن:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} النساء: 80. ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 208).
(2)
تعريف الإعجاز: الإعجاز مشتق من العجز: الضعف أو عدم القدرة. والإعجاز مصدر أعجز: وهو بمعنى الفوت والسبق. والمعجزة في اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة.
وإعجاز القرآن يقصد به: إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله -أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله-.
تعريف العلم: وصف الإعجاز هنا بأنه علمي نسبة إلى العلم. والعلم: هو إدراك الأشياء على حقائقها، أو هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافاً تاماً. والمقصود بالعلم في هذا المقام: العلم التجريبي.
وعليه فيعرف الإعجاز العلمي بما يلي: هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ينظر: المفردات للراغب الأصفهاني (ص 322، 343)، ولسان العرب مادة عجز (5/ 370)، والإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه، د. عبد الله المصلح (ص/30 - 37)، وتأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تأليف الشيخ عبد المجيد الزنداني.
(3)
كما جعل بعضهم السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كل الكون
…
وغير ذلك من التخرصات.
(4)
ينظر: نقد ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن (للدكتور مساعد الطيار)، ملتقى أهل التفسير.
(5)
ينظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 17).
وأبينها، وأعلاها، وأشرفها، قال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} الطور: 33 - 34.
قال ابن تيمية رحمه الله: " كون القرآن معجزة ليس هو من جهة بلاغته وفصاحته فقط، أو نظمه أو أسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط
…
بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى، وأسمائه وصفاته، وملائكته، وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة
…
وكل ما ذكره الناس من وجوه إعجاز القرآن هو حجة في إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له" (1).
وقد أكثر أهل العلم ممن صنف في إعجاز القرآن من ذكر أوجه إعجازه، حتى عد السيوطي منها خمسة وثلاثين وجهاً (2)، وما هذا البحث "الآيات الواردة في الرد على البدع المتقابلة" إلا وجه من وجوه الإعجاز القرآني في الرد على انحراف الفرق عن الحق.
ومما سبق يتضح تفرد منهج أهل السنة بالوسطية بين هذه البدع المتقابلة، فلا إفراط ولا تفريط في الإيمان بكتب الله عز وجل المنزلة.
(1) الجواب الصحيح (5/ 428 - 429).
(2)
ينظر: معترك الأقران للسيوطي (1/ 14) وما بعدها، وينظر: بيان إعجاز القرآن للخطابي (ص 24 - 27)، وإعجاز القرآن للباقلاني (ص 23)، والبرهان الكاشف عن إعجاز القرآن للزملكاني (ص 53 - 56).