الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما لفظة "البدع المتقابلة
":
فإنها لم تكن مشهورة في القرون الماضية، وإنما اشتهر التكلم بها بعد ذلك وقد نقل التكلم بها عن غير واحد من الأئمة والشيوخ (1)، وإن كان حقيقة هذا اللفظ المركب جديدة إلا أن معناها معروف في اللغة العربية، كما سبق بيانه، وفي كتب العقائد.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الانحراف في باب صفات الرب وتنزيهه -جل وعلا- قد تقاسمه أهل التعطيل، وأهل التمثيل، والانحراف في باب الإيمان وقع من طرفي: الغلو في تكفير أصحاب الكبائر، والتفريط من المرجئة في إخراج العمل من مسمى الإيمان، كما وقع الانحراف على هذا النحو في باب القدر، وباب الصحابة، وغيرها من أبواب الاعتقاد، كذلك وقع الانحراف في الأمة في النظر العقلي من جانبين، أهل الإفراط والإغراق في العقليات، من أهل الكلام ومن تأثر بهم، وأهل التفريط والتقصير في هذا الباب، من الصوفية وأهل التقليد، وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض المنتسبين إلى السنة والحديث (2).
قال ابن القيم رحمه الله: "فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدول؛ لتوسطها بين الطرفين المذمومين،
والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها" (3).
وقال ابن أبي العز: " فصار هؤلاء {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الأنعام: 159، يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوا في علي، وأولئك كفروه! وأولئك غلوا في الوعيد، حتى خلدوا بعض المؤمنين، وأولئك غلوا في الوعد حتى نفوا بعض الوعيد أعني المرجئة! وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات، حتى وقعوا في التشبيه! وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويعرضون عن الأمر المشروع، وفيهم من استعان على
(1) أمثال: شيخ الإسلام ابن تيمية ينظر: درء التعارض (6/ 158) ومجموع الفتاوى (4/ 23)، والفتاوى الكبرى (6/ 639)، ومنهاج السنة (6/ 142)، والإمام ابن القيم ينظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الباب الثالث عشر، والإمام الذهبي ينظر: المنتقي من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال (ص 387)، وابن أبي العز ينظر: شرح الطحاوي (2/ 797)، وتقي الدين أحمد بن علي المقريزي ينظر: تجريد التوحيد المفيد (ص 30)، ومحمد بن أحمد بن سالم السفاريني ينظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (1/ 309).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/ 339)، والأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد لسعود العريفي (ص 167).
(3)
إغاثة اللهفان (1/ 201).
ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فإنهم قرأوا كتبهم، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى! فلبسوا الحق بالباطل، وكتموا حقا جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم، نفيا وإثباتا" (1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فلعسر الفرق والتمييز، يميل قوم إلى زيادة في الإثبات، وآخرون إلى زيادة في النفي العام، ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار: النهي عن الإثبات العام والنفي العام، بل إما الإمساك عنهما، وهو الأصلح للعموم، وهو جمل الاعتقاد، وأما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان، كما أن الأول لعموم أهل الإيمان"(2).
وقال أيضاً: " هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة"(3).
لذلك جاءت الأساليب القرآنية بلفت الأنظار بذكر الموازنة بين الضدين، وإثبات عدم المساواة بينهما لتأخذ بالقلوب نحو اختيار النافع والصالح، وترك ما سواه، كما أن للقرآن الكريم أساليب متعددة في توجيه أولي الألباب إلى المفاضلة بين الضدين وعدم المساواة بينهما (4)، ولفظة البدع المتقابلة سيتناولها هذا البحث، من جهة المقابلة في المعنى (5) دون اللفظ.
وقد أوضح ابن الأثير رحمه الله بخصوص (التقابل المعنوي)، بقوله:"واعلم أن في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر وتدبر"(6).
(1) شرح الطحاوية (2/ 799).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 431).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 404).
(4)
اعتمد القرآن الكريم في خطابه أسلوب المقابلات؛ وذلك بأن يقابل بين الأشخاص، ويقابل بين الأعمال، ويقابل بين النتائج، ويقابل بين البدع الباطلة والرد عليها، فإذا تحدث عن المؤمنين أتبعه بالحديث عن الكافرين، وإذا تحدث عن العاملين المخلصين أردفه بالحديث عن القاعدين المهملين، وإذا تحدث عن عاقبة المتقين قرنه بالحديث عن عاقبة المكذبين، وإذا رد على بدعة رد على ما يقابلها من البدع، وعلى هذا السَّنَن يجري الخطاب في القرآن الكريم.
(5)
ومن أمثلة (التقابل) المعنوي، قوله سبحانه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} الأنبياء: 23. وبيان (التقابل) هنا من جهة المعنى: أن في الآية رداً على طائفتين متقابلتين من طوائف المبتدعة. فردت هذه الآية على من نفى أفعال الله-من القدرية - بأنه سبحانه (يَفْعَلُ)؛ وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- أن أدلة إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تزيد على عشرة آلاف دليل .. ينظر شفاء العليل (1/ 573). وفيها رد كذلك على نفاة أفعال العباد -من الجبرية- بأنهم (يُسْأَلُونَ)؛ ونسبة السؤال إليهم فيه دلالة على أنهم قادرين ومحاسبين على أعمالهم.
(6)
الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور (ص 215).
وهذا هو التقابل الذي سيتناوله البحث بحول الله وقوته، مع البدع الواردة في آيات القرآن الكريم.