الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وأن من شبه الله بخلقه فقد كفر، فكيف من جعله عين المخلوقات، وجعله نفس الأجسام المصنوعات؟ (1) -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.
وخلاصة أقوال هؤلاء المعطلة، تدور على أحد أصلين:
1 ـ الأصل الأول:
النفي والتعطيل الذي يقتضي الوصف بالعدم، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان.
2 ـ الأصل الثاني:
أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك (2).
وانحراف هؤلاء في توحيد الربوبية، تارة يكون في جانب التفريط والجفاء وذلك إذا نظرنا إلى أنهم لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون: بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق (3)؛ فمن هذا الباب هم معطلون للتوحيد.
وتارة يكون في جانب الإفراط، إذا ما نظرنا إلى غلوهم في إثبات توحيد الربوبية إلى حد ما يسميه الصوفية بالفناء، وسبب قولهم بهذا، نفي الصفات، وهو أولّ أمرهم (4).
o
القول المستلزم لنفي الله وهو القول: بقدم العالم
(5):
اهتم شيخ الإسلام رحمه الله اهتماماً بالغاً بالرد على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم، وفنَّد حججهم على ذلك، وأكثر رحمه الله من عرض أقوالهم في كتبه ومناقشتها، ومناقشة من ردّ
(1) ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 126).
(2)
ينظر: العرش للذهبي (1/ 92)، وبيان تلبيس الجهمية (6/ 616)، جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير توحيد الربوبية (2/ 766).
(3)
ينظر: العرش للذهبي (1/ 89).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 376)، ودرء التعارض (5/ 312 - 313)، النبوات (1/ 458).
(5)
ينظر: الصفدية (2/ 230).
عليهم من المتكلمين (1)، إلاّ أنني هنا أقتصر على إبراز هذا النوع من الانحراف وأنه من جانب التفريط في توحيد الربوبية.
القول بقدم العالم من البدعة المنكرة التي أحدثها الفلاسفة المتأرجحون بين شريعة الرحمن وزندقة اليونان، تناقِض توحيد الربوبية بشكل واضح، إذ حقيقتها إنكار وجود الصانع، الخالق للكون، المتقدم عليه، ومعناه عندهم أن العالم ما زال موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له مساوقة المعلول للعلة، غير متأخر عنه في الزمان.
ويتضمن هذا القول أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم، والعالم متولد عنه تولداً لازماً (2).
وهذا القول باطل عقلاً وشرعاً، لذلك أجمعت طوائف الملل كلها على بطلانه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء"(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "
…
والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له فينكرون الصانع جل جلاله
…
" (4).
وكل قول باطل لا بد له من آثار سيئة، والقول بقدم العالم لما كان من أفسد الأقوال، كانت آثاره السيئة عظيمة السوء، ومن هذه الآثار:
1 -
أن الرب عز وجل ليس خالقاً للمحدثات، وأن المحدثات كلّها حدثت بلا محِدث ولا فاعل -وقد عُلم فساد قولهم هذا-، وهذا حقيقة قولهم بقدم العالم ولازم ذلك إنكار المعاد (5).
(1) ينظر: درء التعارض (ج 3، 4، 6، ، 8، 9)، ومجموع الفتاوى (ج 6، 9، 12)، ومنهاج السنة (ج 1، 2، 3)، والصفدية، وغيرها.
(2)
ينظر: نواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف (ص 98)، وتهافت الفلاسفة للغزالي (ص 74).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 565).
(4)
شرح حديث النزول (ص 160).
(5)
ينظر: جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في توحيد الربوبية (2/ 823 - 824).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " إن هؤلاء القائلين بقدم العالم وإن أقرّوا بمبدع العالم فقولهم بالحجة التي يثبتون عليها إثبات مبدع العالم حجة ضعيفة (1)، بل قولهم مستلزم لنفي الصانع"(2).
2 -
إنكار المعاد، بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن عمدة الفلاسفة في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم، وأنه لا يجوز أن يتغير، وترتب على هذا قولهم بنفي قدرة الله وعلمه ومشيئته وإنكارهم أن يكون خالقاً للمحدثات (3).
3 -
إنكار واجبات الإسلام ومحرماته، لاعتقادهم أنه لا يوجد ثواب ولا عقاب في الآخرة.
4 -
القول بقدم العالم يستلزم تسلسل العلل والفاعلين، وهو باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء؛ وذلك لأن العلّة التامة لا يتأخر عنها معلولها، والمشاهد أن المخلوقات حادثة متأخرة عن معلولها، فيلزم ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود (الله) فإما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها، وهذا فاسد، وإما أن تكون من فاعل آخر غير الله وهذا فاسد أيضاً.
والقائلون بقدم العالم هم الفلاسفة من أرسطو ومن بعده، وأمَّا أساطين الفلاسفة قبل أرسطو فلم يكن منهم من قال بقدم العالم، وأما أتباع أرسطو المنتسبون إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنه مخالف لضرورة العقل: إذ يثبتون مفعولاً ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه، وهو مع هذا قديم أزلي لم يزل ولا يزال، وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارناً لها مقارنة المعلول لعلته التامة
…
وإثبات ابن سينا لمفعول ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلي جمع بين النقيضين، والفطرة ترد ذلك ولا تقبله، وجماهير العقلاء من أهل الملل والفلاسفة حتى أرسطو وأتباعه
(1) ينظر: درء التعارض (3/ 267 - 268).
(2)
الصفدية (2/ 230).
(3)
ينظر: درء التعارض (7/ 384 - 385).