الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول ما جاء في البدع المتقابلة في توحيد الربوبية
.
تمهيد:
بالرغم من أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر، مجبولة عليه النفوس، متكاثرة على تقريره الأدلة، إلا أنه وجد فئامٌ من الناس قديماً وحديثاً (1) ممن حصل عندهم انحراف فيه، وتغيرت فطرهم، فظهرت البدع المتقابلة في توحيد الربوبية.
لذا نجد أن الوحي اهتم بذلك وناقشه، كما في قوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} الطور: 35، وقوله:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إبراهيم: 10 وغير ذلك من الآيات.
قال ابن تيمية رحمه الله: " فأما الإيمان بالله فهو في الجملة قد أقر به جمهور الخلائق، إلا شواذ الفرق من الفلاسفة الدهرية، والإسماعيلية ونحوهم، أو من نافق فيه من المظهرين للتمسك بالملل"(2).
وبالجملة فإن جحد هذا النوع من التوحيد أو الإعراض عن تحقيقه أو التقصير في فهمه ومعرفته، يؤول إلى الضلال والبعد عن الله والهلاك.
كما أن الغلو فيه وجعله هو التوحيد الواجب، يؤدي إلى شهود الحقيقة الكونية فقط، وعندئذ فلا يكون هناك فرق بين المؤمن والكافر، ولا البر والفاجر، ولا أولياء الله ولا أعدائه (3). كذلك فإن الغلو في شهود خصائص الربوبية أدى إلى إيجاب الرضا بكل مقضي (4)، وهذا يفضي إلى جعل القدر حجة في باب المعصية (5).
والذين وقعوا في البدع المتقابلة في توحيد الربوبية هم ممن صرفوا خصائص الربوبية (6) كلها، أو بعضها لغير الله عز وجل، أو عطلوه عز وجل عنها بالكلية، أو غلوا في توحيد الربوبية
(1) تطور الشرك في الأزمان الأخيرة حتى أصبح محمياً تقوم عليه دول وترعاه منظمات وتديره مؤسسات -والله المستعان-.
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 631).
(3)
ينظر: منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد (2/ 498).
(4)
ينظر: منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد (2/ 498).
(5)
ينظر: الاستقامة (2/ 78 - 79).
(6)
وخصائص الربوبية هي: التفرد بالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والإعطاء والمنع، والضر، والنفع، وغير ذلك.
فوق الحد المشروع، إذا فالبدع المتقابلة نتاج عن الجهل بمعرفة الله وخصائص ربوبيته؛ ومن أجل ذلك فإنها تصل في أكثر صورها إلى الشرك الأكبر (1)، وهو شرك يتعلق بذات الله عز وجل.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ (2) رحمه الله: "فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقاً، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه"(3).
قال ابن تيمية رحمه الله: "أما النوع الثاني فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته"(4).
وبناءً على ما سبق فقد ضلت عدة طوائف في توحيد الربوبية، فمنهم من خرج بمفهومه عن الإسلام، ومنهم من فهمه فهماً خاطئاً، ومنهم من فهم بعض أجزائه، ويمكن تقسيم أولئك إلى طائفتين:
إحداهما: الذين جَفَوا في معنى الربوبية: إما بإنكارهم لربوبية الله مطلقاً وجحدها، أو بتعطيل الله عز وجل عن خصائص ربوبيته، أو جعلها لغيره مع تعطيلهم لوجوده عز وجل.
والطائفة الثانية: الذين بالغوا في معنى الربوبية فأثبتوها لله ولغيره فجعلوا معه شركاء في خصائص الربوبية، ولم يعطلوا الله عز وجل عن وجوده.
لأن أصل الشرك: إمّا التعطيل، وإمّا الإشراك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وأصل الشرك: إمّا التعطيل، مثل تعطيل فرعون موسى، والذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم، والدجال مسيح الضلال خصم مسيح الهدى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وإما الإشراك:
(1) قال ابن القيم رحمه الله: "
…
البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالى؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} الأعراف: 33، فالإثم والبغي قرينان والشرك والبدعة قرينان". إغاثة اللهفان (1/ 63).
(2)
هو: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، أحد أئمة الدعوة السلفية النجدية، محدث فقيه، من مؤلفاته: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، حاشية على المقنع في الفقه، الدلائل في عدم موالاة أهل الإشراك، توفي سنة 1233 هـ.
ينظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام (2/ 341)، وعلماء الدعوة لعبد الرحمن آل الشيخ (ص 37).
(3)
تيسير العزيز الحميد (ص 43).
(4)
مجموع الفتاوى (1/ 92).
وهو كثير في الأمم أكثر من التعطيل، وأهله خصوم جمهور الأنبياء، وفي خصوم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم معطلة ومشركة، لكن التعطيل المحض للذات قليل، وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال، وهو مستلزم لتعطيل الذات" (1).
والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتألُّه والخضوع والذل، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم (2) أن يعطى حقه لغيره؛ لذلك كثرت تحذيرات القرآن والسنة من الشرك وقطع كل السبل الموصلة إليه، ونلحظ أن كثيراً من البشر نتيجة غلبة الجهل وعدم تعظيم الله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الأنعام: 91، والابتعاد عن منابع الهدى والرشاد تنكبوا الطريق ورجعوا إلى الشرك وإلى التعلق بغير الله تعالى في أقبح صورة وأسوء حال، فجنحوا إلى الإفراط أو التفريط في ربوبية الله وبيان ذلك فيما يلي.
(1) منهاج السنة (3/ 292).
(2)
الظلم هنا واقع على العبد، وليس على الله -تعالى الله عن ذلك وتقدس-؛ لأن الله لا يضره عباده ولا ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم ولهذا قال تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} آل عمران: 176، {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} يونس: 44، فهذا نص في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم، بنقص حظها من الثواب وتعريضها للعقاب.