الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للآيات الرادة على البدع المتقابلة في مسائل الإيمان
.
الإيمان بالله سبحانه أساس سعادة العبد، وعليه مدار نجاته وفلاحه في دنياه وآخرته، فحاجة الإنسان إليه فوق كل حاجة وضرورته إليه فوق كل ضرورة، وهذه بعض الآيات الرادة على الانحراف العقدي في مسائل الإيمان، للدلالة على اهتمام الشرع بهذا الباب العظيم:
1 -
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} الإسراء: 57، هذه الآية فيها دعوة إلى أن يكون الإنسان في حال سيره إلى الله ما بين الخوف والرجاء، والسير بهذا المنوال يخرج به الإنسان من طائفتين ضلتا في هذا الباب، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان شيء، فمن كان راجياً فقط وترك الخوف دخل في طائفة المرجئة، ومن أفرط في الخوف دخل في طائفة الوعيدية الذين يرون أن مرتكب الكبيرة يكفر ويخلد في النار ما لم يتب قبل أن يموت.
2 -
قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} هود: 3، في هذه الآية رد على الجهمية والمرجئة الذين يقولون:"لا يضر مع الإيمان ذنب كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة"(1)، فبين الله سبحانه أن الذنوب تضر أصحابها، وأن أمر صاحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وأما الطاعة مع الكفر فلا تنفع، فالكافر إذا حصلت منه طاعة فإنها تكون مردودة وغير مقبولة، كما دلت هذه الآية على بطلان قول المرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاستحلال فقط، فدلت هذه الآية على أن قولهم هذا باطل، لمخالفته لمنطوق نصوص الوعيد؛ لأن الوعيد نيط فيها بالفعل دون الاستحلال؛ ولأن الاستحلال بمجرده موجب للوعيد فعل أو لم يفعل (2).
كما أن في هذه الآية ردٌ على الوعيدية الذين تعلقوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد فإن من رحمة الله عز وجل بخلقه أن أوجد أسباباً وطرقاً لإسقاط الوعيد عن خلقه الذين معهم أصل التوحيد؛ فتلك الأسباب لا تجدي نفعاً إن لم يكن مع العبد أصل التوحيد الذي هو أهم سبب لنجاة العبد من عذاب الله ووعيده؛ لأن الذنب الأعظم -وهو الشرك بالله تعالى- لا توجد
(1) وهذا القول هو الذي من أجله كفر السلف الصالح الجهمية.
(2)
ينظر: مدارج السالكين (1/ 427).
حسنة تستطيع محوه إلا حسنة التوحيد؛ وأما بقية الذنوب والمعاصي فقد تنوعت الحسنات والطرق التي تزيل لحوق الوعيد بمرتكبها؛ فضلاً من الله وتكرماً. فكانت هذه الآية رادة على كلا البدعتين.
3 -
قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} البقرة: 112، في هذه الآية رد على المرجئة الذين لا يشترطون النية الخالصة للعمل -لازم قولهم-؛ لأنهم يعتقدون أنه لا تأثير لفعلهم الصالح والسيئ على الإيمان، فالأعمال خارجة عن الإيمان -بزعمهم-، فردت عليهم هذه الآية:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} -فالوجه رمز على الكل، ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم (1) - فدل هذا على وجوب إخلاص كل الأعمال -الظاهرة والباطنة- لله عز وجل، وفيها كذلك رد على الوعيدية الذين حسنت نيتهم ولم تصح أعمالهم ولم تقتد بالشرع {وَهُوَ مُحْسِنٌ}
…
أي متابع لما جاء به الشرع لا مبتدع {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، فكان لازم قبول العمل أن يكون خالصا صواباً وهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة.
4 -
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} الأنفال: 2، في هذه الآية ردٌّ على من منع تفاوت الإيمان، وتفاضله، ودخول الأعمال فيه، فذكر الأعمال الصالحة الظاهرة (2) والباطنة (3) وجعلها من الإيمان {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، دليل على أنه لم يثبت لهم حقيقة الإيمان إلا باجتماع خصال الخير من الأعمال الظاهرة والباطنة، والمرجئة يثبتون حقيقته بالتصديق وحده، كما أنه عز وجل قال بعد ذلك كله:{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} الأنفال: 4، وقد أثبت لهم الإيمان بشرائطه وحقيقته، وهم لا يجعلون للمؤمن في إيمانه إلا درجة واحدة، ولا يجعلون للإيمان أجزاء (4)، كما أن في هذا أيضاً رداً على الوعيدية الذين جعلوا الإيمان جزءاً واحداً يزول بزوال بعض أجزائه، فكان قوله تعالى:{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
(1) ينظر: تفسير جامع البيان للطبري (2/ 512)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 75)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 385).
(2)
ذكر قبل (إنما المؤمنون) التقوى وإصلاح ذات البين، وغير ذلك من الأعمال.
(3)
ذكر في هذه الآية التوكل: وهو عمل باطن، وغير ذلك من الأعمال.
(4)
نكت القرآن الدالة على البيان، لمحمد على القصاب (1/ 461 - 462).
1 -
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} الفرقان: 70، في هذه الآية رد على المرجئة الذين أخرجوا العمل من حقيقة الإيمان، وقالوا: بأن السيئات لا تؤثر على الإيمان، ونفوا الوعيد عن عصاة الموحدين (1)، فجاء قوله عز وجل:{وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} للدلالة على تأثير الأعمال على الإيمان، فبطل اعتقاد من يعمل السيئات ويرجو أن يتساوى هو ومن عمل الصالحات.
كما أن فيها رداً على الوعيدية الذين سلبوا أسماء الدين والإيمان عمن يستحقها شرعاً، وقالوا: بخلود العصاة في جهنم (2)،
فإن الله تعالى قد أخبر بالمغفرة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} ، وذكر سبحانه أسباباً كثيرة لإسقاط الذنب غير التوبة {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} مما يدل على عدم الخلود، واستحقاقهم لأصل الإيمان.
وبهذا يتبين فساد قول كل من الوعيدية والمرجئة في مسائل الإيمان، وأن الحق هو مذهب أهل السنة والجماعة.
(1) نفي الوعيد عن عصاة الموحدين، أو إيجابه يستلزم لوازم باطله منها:
-
…
مخالفة النصوص المتواترة في أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة أو العفو.
-
…
مخالفة ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أنه لا بد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة ثم يخرجون منها.
-
…
إبطال التكاليف اعتماداً على كفاية التوحيد، وهذا يفضي إلى الانخلاع عن الدين، والانحلال عن قيد الشريعة.
-
…
سقوط حقوق الآدميين بمجرد الموت على الإيمان؛ وهو خلاف ما استقرت عليه القواعد.
ينظر: فتح الباري (1/ 103).
(2)
يدل على بطلان مذهب الوعيدية، أن انقطاع عذاب عصاة الموحدين يكون بثلاثة طرق وهي:
-
…
الإخبار بأن الجنة مآل كل موحد، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة.
-
…
الإخبار بخروج عصاة الموحدين من النار بالشفاعة أو بعفو أرحم الراحمين.
-
…
التصريح بأن العذاب الدائم مختص بالكفار.
ينظر: لوامع الأنوار (1/ 389)، وفتح المجيد (ص 78، 79).